شِيركُو بيكَهْ سَ
عن دار الزمان في سوريا، ومؤسسة ره نج للصحافة والنشر في كردستان، صدر أخيراً كتاب المنتخبات الشعرية المترجمة إلى العربية، للشاعر شيركو بيكه س، في مجلد أنيق (312صفحة)؛ أعد المختارات، وكتب المقدمة الشاعر محمد عفيف الحسيني، وراجعها مع الناقد سامي إبراهيم داوود
.كتب كلمة الغلاف الأخير الشاعر والروائي سليم بركات
.هنا، المقدمة، مع كلمة الغلاف الأخير، مع منتخبات من المنتخبات الشعرية
.محمد عفيف الحسيني أيُّها الموتُ، أيها الكبْشُ البَرِّيُّ تماماً، في أحْمالِ سنةٍ كاملةٍ، وبضعةِ أيامٍ، اشتغلتُ على هذه المُنتخبات الشعرية، للشاعر شيركو بيكه س، "الرعوي، المُنْشِدُ"، كما يصفه سليم بركات؛ سنة، وأنا أبحث في الكتبِ التسعةِ، للشاعر، والمُترجَمة إلى العربية، مع نصوصٍ أخرى، مبثوثة هنا وهنا، عن ذائقتي الشعرية الصعبة ـ الامتحان، عن الشعر الكردي مترجماً إلى العربية. عبثاً، حاولتُ أن أكونَ متساهلاً مع نصٍّ شعريٍّ عنيفٍ أو سلسلٍ، متمكنٍ قويٍّ، عذبٍ منفيٍّ، رحَّالةٍّ مورِّخةٍّ، مدوِّنةٍ لحياةِ الشاعر بيكه س ـ الإبن ـ، والأب الشاعر أيضاً، ولكردستان، ومن ثمت المنفى، ومن ثمت، ثانيةً، كردستان. بحثتُ، تماماً، لمدةِ سنة وبضعة أيام عن ذائقتي الشعرية، في المنتخباتِ هذه. تتبعتُ أثرَ الشعرِ، ظلالَ الشعرِ، وهجَ سنوات شيركو بيكه س، الغامضة حيناً، الواضحة أكثر الأحيان، حيث تتفجَّر الذكرياتُ والتاريخُ الكرديُّ بجهتيه الألم: الشعر والحياة، وحيث التاريخُ الكرديُّ بجهامته، والذي أمالَ الشاعرُ بظلالِ هذا التاريخ الكئيب المختنق على شعره (سأذكر هنا، تدوين الشاعر الدقيق لحياته الشخصية، أولاً، ثم حياة الأب الشاعر، ثم كردستان، ثم المنفى، ثم كردستان، الميثولوجيا الكردية، الحياة الصخَّابة العجولة للشهداء، أشجان الشعراء الكرد الكلاسيك؛ عذابات الطبيعة؛ برازخ الممكن للشاعر؛ سكك أوربا؛ وعزلة أوربا، ومعهما، الموت، حيث، كما قرأتُ في نصوصِ الشاعر الأخيرة: العمل على ثيمتين، جوانيتيْنِ: الإيروتيك، والموت). بحثتُ بين اللغة العربية، التي نقلَ بها المترجمون ـ أصدقائي، شعرَ الشاعر، بحثتُ أيضاً عن بعض طِباع الترجمة: ترجمة الشعر، وهي الترجمة، نقل لعلوم الفاكهة الطازجة، في لغتها الأصل، إلى علوم الفاكهة المجففة في لغة أخرى؛ لكنْ، مع كل هذا، ترددتُ، لمدة سنة، في اختيار هذه المنتخبات، وفي كل مرة، كنتُ أختلق لنفسي الذرائعَ، والحجَّةَ وراءَ الحجة: كتابٌ شعري بالكامل، خفتُ عليه أنْ أشوهَه، فلم أخترْ منه سطراً واحداً. قصيدة ـ كتاب، لم أستطعْ اجتزاءَ مقاطعَ منها، بسبب تلك الوحدة الشعرية في النص، وكذلك الوعورة. كنت أترفَّقُ أيضاً بالنصِّ المتوحِّدِ المتماسكِ. كنتُ أخاف أن أجرحَ النصَّ الطويلَ، فتركته في هذه المنتخباتِ. *** هي المنتخباتُ، فيها ظلالي الشاعرية أيضاً؛ وذائقتي، وروحي، ولغتي، وقلقي، ومنفاي، فيها، مرآة الظلال الماضية. *** ".. أنا ظلال مرايا الماضي...". يقول شيركو بيكه س. *** ثمت، من اعتذار لأصدقائي ـ مترجمي شيركو إلى العربية؛ فقد تصرفتُ في بعض صياغاتي اللغوية، حسبَ قراءتي الشعرية العربية، دون العودة إلى الأصل الكردي. كان اجتهاداً، ربما أخطأتُ مراتٍ في حق ترجماتهم، لكنْ، يقيناً، كنتُ أرى ظلالَََهم، وظلالَ مراياهم اللغوية، تنعكس على السنةِ والبضعةِ أيامٍ، وأنا مترددٌ في كيف يُمكن تقديم تجربة شاعر مثل شيركو بيكه س، عبر مُنتخبات مبتسرة حيناً، مختزلة، قصيرة، أو مقتطعة من كتاب؛ شفيعي في كل أخطائي، هو الشعرُ. والشعر فقط
. لنقرأْ هذا الشاعر في رحلته القديمة مع الشعر، منذ فايق بيكه س الأب، إلى الإبن هنا: شيركو بيكه س
.
***أيها الموتُ
..ياكبْشاً برياً
.
***أنا المساءُ،
أتساقطُ
قطرةً قطرةً
.
***كانتْ خطواتُ الحَيرةِ تتصاعدُ
. ***كبْشاً كبْشاً، قطرةً قطرةً، مساءً مساءً، خطوةً خطوةً، تتبَّعتُ أثرَ هذا الشعر، في هذه المنتخبات
.سليم بركات
الرَّعويُّ، المُنْشِدُ، الجوَّالةُ في الطبائعِ المائيةِ للكلماتِ، يحدِّثُ الترابَ بلسانِ الروائح، التي هي قَسَمُ الكرديِّ؛ وبلسان اللَّون، الذي هو بزرةُ روحِه، مأخوذاً ـ في كلِّ تدبيرٍ للصور ـ بنازعِ المُحْتَفل، كأنما يسرحُ في المذاهبِ كلِّها، المُؤْتَلِفَةِ باجتهادِ الهواء الفقيه
.شيركو بيكَهْ سْ عنوانٌ لمختاراتٍ مؤلِّفُها شِعْرٌ كرديٌّ
.الشفق الأول حين جاء الشفق الأول،
وربت على كتف القمم،
لتنهضَ من نومها،
كانت سنونوة قصيدتي الساهرة،
قد عادت من هناك،
تغني على طاولتي،
فوق ثلج الأوراق
.قامة أنا، عذاب طويل القامة،
دون أن أعتلي
أكتاف آلام أخرى،
بخطفة،
أينما كان الجرح، أراه
وأينما كان الكادح، رآني
.وعد إن تمكنتَ من عدِّ
أوراق تلك الحديقة،
أو تلك الأسماك الكبيرة والصغيرة،
في ذاك النهر الذي يجري من أمامكَ،
أو أن تعدَّ
الطيورَ في موسم هجرتها،
من الشمال إلى الجنوب،
ومن الجنوب إلى الشمال،
آنذاك
..أعدكَ، بأنني سأحصي
ضحايا وطني كردستان
.قنديل في آخر الليل،
في كل ليل،
أهمس لقلمي
:"إذا كان قنديلُ شِعركَلايضيء، إلا بدمِ شهيدٍ،
فلتشلَّ يدكَ،
ولتُعمَ،
لتعشِ الناس، ولتمتِ القصائدُ
".أسطورة ليس هذا القمر،
كان، ثمت قمرٌ آخرُ أجمل،
عشقه الماءُ، واهتام به،
كانت يدا الموج، لاتصلان إليه
.ذات ليلة، سافر القمرُ إلى الصحراء،
غاب عدة ليالٍ،
وحين عاد، كان غبار الصحراء
قد غطى وجهه، وثيابه الفضية،
وكان الماءُ نائماً
.قرر القمرُ أن يستحمَّ،
على عجل، انزلق إلى البحر،
زلتْ قدمه فوق حجر أملسَ،
فغرق القمر،
استيقظ الماء مرتبكاً،
بحث عن القمر في قاعه،
بحث عنه فوق أمواجه، دون جدوى؛
ومنذ تلك الليلة،
ومابين البحث في القاع والسطح
وُلدا، المدُّ والجزرُ
.كمنجة علقتُ على صدركِ،
وردةً على هيئة كمنجة صغيرة،
آهٍ
...حين مررتِ أمامي،
كنتُ أسمع عزف الكمنجة،
آه
...كنتُ أرى الرقصة الرشيقة لنهديكِ
.هه لبه ست يطل القمر برأسه من نوافذ الغيوم،
وينثر الفضة على الفرات، بهدوء،
يرتجف شعاع قعر النهر،
هو مثل القلادة، ومثل القرط
.الليل حزين كزوجتي،
نجلس مهمومين،
تلعب ابنتي، ذات العينين السوداوين
على رمال الشاطىء الحارة،
إبنتي، بعمرها الإثني عشرة عاماً
.ينثر القمر الأشعة على ضفائرها،
ويصنع لها تاجاً من الفضة
.إبنتي، تجلس الآن على الرمال، تجمع القواقع
.هاهي، بعينيها السوداوين،
بدأت، للتو، تترنم بأغنية،
هي كباقة ورد ظامئة في الفرات،
تغني ابنتي: "ياكردستان، ياحياتي
"،
فنرفع رأسينا، أنا وأمها،
ونبكي، بصمت،
دون أن تدري هه لبه ست
.الكتابة لاتكتب السماءُ المطرَ، دائماً
.لايكتب المطرُ الأنهارَ، دائماً
.لايكتب الماءُ الحقولَ، دائماً
.لايكتب البستانُ الزهورَ، دائماً
.وأنا.. لاأكتب الشعر، دائماً
.1993
الحب تدخل روحي،
ولستَ شعاعاً
.تدخل جسدي،
ولستَ دماً
.تدخل عيني،
ولستَ لوناً
.تدخل أذني،
ولستَ صوتاً
.بل أنتَ
..سر الحُب
.1992
الماء ماهما "دجلة"، و"الفرات"؟
.إن كانا ماءً،
فالماء لالون له،
وهما أرجوانيان
.الماء لاطعم له،
بينما لهما مذاق تاريخ محترق
.والماء دون رائحة،
بينما تفوح منهما على الدوام
رائحةُ احتراق شعور أولادنا
.1993
الستارة هاتان الشجيرتان
شجيرة التفاح، وشجيرة الرمان،
كانتا عاريتين، على ضفة النهر
.عندما تعانقتا
..شعرت الصبية ـ التفاحة
بأن ثمت شجرة كثيفة الشعر
تتلصص عليهما من بعيد، بمنظار،
فأسرعت باسدال
ستارة الضباب على تلك الضفة
.حالتان تأمل الكلمة في الكلمة،
تأمل الخيال في الخيال،
تأمل عيني في عينيكِ،
تأمل جسدي في جسدكِ،
جعلني بحراً،
جعلني ناراً
.افتراق الكلمة عن الكلمة،
افتراق الخيال عن الخيال،
افتيراق عيني عن عينيكِ،
افتراق جسدي عن جسدكِ،
جعلني صقيعاً،
جعلني صحراءً
.1992
ياليت أقول لقلمي، كل ليلة
:"إن كان قنديل شِعْركِلايشتعل
إلا بدم شهيد جديد،
حينها
..لتحقق أمنيتي هذه
:لتنكسرِ اليد،
وليفنِ العمرُ،
لتذهب إلى الجحيم،
ليعشِ الناسُ،
وليمتِ الشعرُ
.الفارس حين خمد الإنهيارُ،
وتلاشى الثلجُ،
وجدوا في الوادي الفارسَ،
والجوادَ الأسودَ لـ نوروز العام الماضي
.كان الفارسُ كما هو،
جالساً باعتدالٍ،
بشاربيه الأسودين، وقبعته ولفافة يده،
يدة المشعَّرة تمسك باللجام
.وكان الجوادُ، كما هو،
منتصباً بردفيه العريضين، وسرجه ومهمازه
.لكن
..لم يكن هذا يصهل،
ولاذاك كان ينشد للبراري
!.معاً في أمسية ما
..جلس معاً أعمى وأصم وأبكم،
لبضعة ساعات
على مقعد في إحدى الحدائق،
جلسوا معاً بانتصاب واعتدال، ومبتسمين
.كان الأعمى يرى بعيني الأصم
.كان الأصم يسمع بأذن الأبكم
.وكان الأبكم
يفهم من الإثنين من حركات شفتيهما
.وكان الثلاثةُ يشمون رائحة الزهور
في آنٍ واحد
.الانزلاق عارِيَةً تَقِفينَ،
أمامَ مِرآةِ الغُرفَةِ،
شَعرُكِ يتهادى على جِيدِكِ وكَتِفَيكِ
كشَلاّلَينِ مِن ماءٍ أسوَدَ
!أو جزيرةٍ بَلُّورِيَّةٍ
تُلاطِمُ أمواجُها جسَدَكِ
.يالَهُ مِن ربيعٍ أبيَضَ يُشِعُّ ببريقِهِ في عَينَيَّ
!.يالَهُ مِن ماءٍ بُرونْزِيٍّ
يَتقاطَرُ عليَّ
!.تَكويرَةُ النَّهدَيْنِ
استدارَةُ الرِّدفَيْنِ
دَوَراناتٌ قَوسِيَّة
تنسابُ مِنَ الوَسَطِ
صَوْبَ الفَخِذِ الصَّقيلَةِ المَلْساءْ
.وبسُرعةٍ.. بسُرعةْ
تُصيبُني بالدُّوارِ،
فأنزَلِقُ فُجاءَةً
على زُجاجِ جِلْدِ الهُلْبَةِ
.أَندَلِقُ صَوبَ دُنيا مُعشَوشِبَة،
وَسْطَ مَرْجٍ مُنَدَّى
ذي حشائِشَ ساحِرة
.عَينايَ تَجُنّان،
أصابِعي تَتمرَّدُ و
تُغادِرُ كَفِّي
.الآنَ
..كِلانا
مِرآةُ الآخَر
!.البِرْكَة بلِباسِكِ الأزرَقِ الشَّفّاف
تَتمدَّدينَ في السَّريرِ لِتُصَيِّريهِ بُحَيرةً،
أجلسُ على ضِفَّتِكِ نِصفَ عارٍ،
أُحَملِقُ فيكِ كأنّي أراكِ أوَّلَ مَرَّة
!المِخَدَّةُ مُبَلَّلَةٌ
وشَعرُكِ لَمْ يَجفَّ بَعْدُ. شُعاعٌ
خافِتٌ ينسابُ متسلِّلاً إلى الداخِل،
ليُحيلَ جُلَّ البِرْكَةِ إلى لُجَينٍ،
فتأتلِقُ الأقراط. جَعَلتِ إحدى ساقَيكِ هَرَماً،
حيث الحَجَلانِ الأبيَضانِ يَستَظِلاّن
!.وتحتَ السُّرَّةِ
بُقعةُ مَرْجٍ رَطيبة
تشعُّ ضياءً
.أجلِسُ إزاءَكِ
نصفَ عارٍ،
وقد اضطَرَمَ فيَّ
لهيبُ الجَسَد
!. والآنْ
..أنا عارٍ تماماً
وأكادُ أنقلِبُ
صَوبَ هذهِ اللُّجَّةِ الزرقاء،
التي لَنْ أبرَحها
حتى آخِرِ أَزَّةٍ
في سُفودِ الحَسرَةِ
داخِلَ جسَدي
!.داخل سلة مثل أرنب، داخل سلة صغيرة،
أدخل هناك، في شرفة ضيقة،
أجلس، وأغرق داخل كرسي عميق،
وأنظر بعيداً
..مع تفكير متشتت،
متشتت كحلقات دخان سيجارتي
.أنظر بعيداً
..وقد تحولتْ القبة الكبيرة لإحدى الكنائس
إلى قبعةٍ للغابة
سرب من الطيور يمضي صوب حافة الغابة،
ويحط عليها
..وفجأة يهب حفيف رياح الغابة،
يحلق السرب من جديد
تفترق الطيور عن بعضها البعض،
وبعد دورة طيران، تتلاقى أزواجاً أزواجاً
في عمق بقعة صافية من السماء
.أنا داخل كرسي عميق،
أنا داخل بلد عميق،
أنا داخل تفكير عميق
.أنا، يومياً صوب الأعلى
داخل سلة صغيرة بانزعاج وانزعاج،
كأرنبٍ لايخرج غير رأسه من السلة،
في هذه اللحظة.. أنا ظلال مرايا الماضي، فقط،
عنقي ينحني على صدري،
أترك القصيدة نصف مكتملة،
ثم أغوص في النوم
.