عشر قواعد تمنع اختلال الأسرة
الحمد لله (يبدؤا الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون)1، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله رحمة للعالمين أرسله.
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامَ إن الله كان عليكم رقيباً)2.
أما بعد فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن من كلامه تعالى قولَه: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبُلَنَا وإن الله لمع المحسنين)3، نقل الإمام القرطبي عن أبي سليمان الداراني أن الجهاد في الآية ليس قتال الكفار فقط بل هو نصر الدين والرد على المبطلين وقمع الظالمين وعظمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله وهو الجهاد الأكبر ، وذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المعنى (والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا) ، وهذا يتناول بعموم الطاعة جميع الأقوال ، وفي عالم المسلمين يفكر العديدون بكثير من المحاور الضرورية لهم ويُغفلون أهم لوازمها وربما انطلقوا إلى ما لا يطيقون ولا يستطيعون وفرطوا بما يقدرون ويتمكنون.
ما هي نتيجة صراع حضاري ضار يدور على جبهات طاحنة ؛ إن لم تكن مراكز الإمداد والتوجيه والتعبئة والمساندة بل مواقع الفكر والتصور والقيادة والإرشاد في حالة سلامة وعافية!
وكنا قد ذكرنا لكم أن أحد الذين انهمكوا عقوداً في العمل السياسي وعاش تجارب مريرة للمسلمين وشارك في الإعداد والتخطيط والتفكير والتوعية قد خرج بعد ذلك بنتيجة حاسمة وهي أن بناء الأمة المسلمة الراشدة إنما منطلقه الأسرة الصالحة!
لحظة يا صاحبي إن تَغفلِ ألفَ ميلٍ زاد بُعد المنزل
هل فكر واحد منكم بمعادلات الأسرة الصالحة ، أم أن العفوية و المزاجية هي التي تحكم وتقود ، فقه الأسرة المسلمة ينبغي تذكره وحمله والسعي إلى النهوض به ، أين هو موقع الخلل؟ فكروا معي قليلاً ... إن كان الدين دين الله فلماذا تحصل السلبيات؟ الجواب بسيط ، محاكماتنا للأمور فيها أغلوطات ، التصحيح يقوِّم ما اعوج من صحت بدايته صحت نهايته ، أما البداية الخاطئة فعاقبتها لا تحمد بحال.
البداية الصالحة من قوله تعالى (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور )4.
ومن باب تصحيح المحاكمة وتقويم التصورات نقول أنه تسود في الأسرة المسلمة أحياناً أفكار لا بد من مراجعتها نذكر بعض النقاط التي نعتقد أنها من أسباب الاختلالات ، ودرؤها يقي من مصارع عاجلة وإصابات قاتلة ؛ فنقول: إن من أهم العيوب التي تنسف استقرار الأسرة المسلمة مايلي:
1- المرجعية القائمة على المصلحة الخاصة : ومن الطبيعي أن تلجأ الأسرة عند وجود خلاف داخلها بين زوج وزوجته أو والد وأبنائه إلى استنفار المرجعية الدينية ؛ إن أكثر الحالات التي نصادفها تظهر أن المرجعية يستدعيها غالباً الطرف الأقوى لتدعيم رأيه لا للخضوع للشريعة المطهرة ، وفي حال أن المرجعية الشرعية ستعزز الرأي المخالف له فإنه يتجاهلها أو يحاول الالتفاف عليها قال تعالى: (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد)5.
2- الخبرات الحياتية الضحلة : فالمثاليات النظرية التي يعيشها قسم كبير من الناس تؤدي بهم إلى الاعتقاد أن الأمور تجري بطريقة سحرية والواقع أن الحياة مليئة بالمصاعب التي يمكن التغلب عليها بالتفاهم والمودة والصبر والتعاون وإدراك أبعادها الحقيقية ؛ أما الزوجة (النقاقة) أو الزوج الذي يطلب من زوجته حياة مثل نموذج ضحل يظهر في مسلسل تلفزيوني ؛ يعرض الحياة أزهاراً لا أشواك معها فكل ذلك جدير بأن يصدع حياة الأسرة بسبب عدم فهم الحياة وبلوائها ؛ قال تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون)6 ، وقال تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)7.
3- استهلاك القليل الموجود : فالرصيد المسبق الموجود يحتاج إلى تنمية وإغناء إيماني واقعي أما استنزافه فمن شأنه فتح الثغرات ، وقد نبه الهادي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهمية الاستمداد الدائم في الحديث الصحيح (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل)8 ، فالقليل المستمر يرفد ويعين أما الانقطاع فمؤذ ولذا قال السلف رضي الله عنهم (من لم يكن في زيادة فهو في نقصان).
4- التصورات المغلوطة للعلاقات الأسرية : إن الهدف في الأسرة هو الظفر بنعمة السكينة الإيمانية (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)9 أما تلك التغذية السلبية التي تحصل أحياناُ بتصوير البيت حلبة صراع لا بد أن يحتلها الرجل ولا بد أن تحتاط لها المرأة فهي بصمات نفسياتٍ مقهورة تحاول الامتداد في الأسر الجديدة للعيش في الرغبات النفسية المكبوتة والتي لم تجد لها متنفساً ، وعلى الزوجين تفاديها والخروج منها سواء في العلاقة بينهما أم مع أسرتيهما، ويظل الخلق الإيماني هو المطلوب ؛ قال الهادي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يَفْرَك مؤمنٌ مؤمنة إن كره منها خُلقاً رضي آخر )10.
5- عدم الحسم في السلبيات : الذين عندهم آفات نفسية ندعو الله لهم بالشفاء والعافية ولكن الدعاء شيء وصد آثارهم المخربة شيء آخر ، ومازلنا نستحي حتى اليوم من وضع الأمور في نصابها.
المرأة الثرثارة ، والرجل الذي يتسلى بأعراض إخوانه ينبغي أن يكون التصرف معهم حاسما ً، فالتي تسأل لتنشر الخبر بأوسع من قدرات شبكات الفضاء عن سبب خصام فلان مع زوجته ينبغي أن يقال لها بحسم : (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)11، وأكلة اللحوم والأعراض ، والفسقة حاملو الأخبار المغلوطة ومحبو نشر الضعف والفواحش لا ينبغي التهاون معهم ؛ قال تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون)12، والأخ أو الأخت الذي يأتي أحدهم إلى المسجد فيصلي معنا ثم هم يفرقون بين الرجل وزوجه بألسنتهم وقلوبهم المريضة نقول لهم الآن : (إذ تَلَقَّونهُ بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم)13، وكفانا أيها الأخوة والأخوات مجاملات ومداهنات.
6- العودة إلى الماضي : ما من شيء أشد تخريباً للعلاقات بين الناس من استدعاء الماضي في كل لحظة توتر أو انفعال ؛ فتغدو العلاقة جحيماً لا يمكن استمراره ، واستدعاء الماضي هو دأب الجهلة والمرضى النفسيين ، وما الحال في إنسان قَصَّرَ أو أساء أو غلط ثم تدارك ذلك ؛ أفنعيره في كل لحظة بما مضى ؛ إن هذا من شأنه تهوين الغلط ثم استدعاء صاحبه لاقتحامه مرة أخرى لأنه يرى أن فعله وتركه سِيَّان ؛ فيدعوه ضعفه إلى التهاون به ولذا ورد في الحديث الصحيح أن (الإسلام يجب ما قبله)14، وكذلك التوبة والعهد الصادق والإقلاع عن الغلط ، قال تعالى: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزُلَفَاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين)15.
7- غياب فهم الفرق الفردية : فصاحب العلم والفقه والثقافة يعلم أن النفوس مختلفة فيعطي كل ذي حق حقه ؛ أما من يريد أن يكون كل الناس قالباً واحداً فهذا مما لا يمكن وما كل ما يحبه فلان تحبه زوجه وما كل ما ترغبه الزوجة يرضاه الزوج ، والأمر مع الأبناء كذلك ؛ فمن فهم هذا سعى في البحث عن القواسم المشتركة فتكون له نعم الواحة والمَعين ، أما من يريد حشر كل الناس في رغباته الخاصة فلن يحصد إلا شقاقاً مع الغير أو قمعاً لهم وكلا الأمرين ضرر بين ، وقد قال علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يطيقون أتحبون أن يُكذًَّبَ الله ورسوله)16 ، وأخرج مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قوله: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)17، وقد ذكر أن رجلاً أراد طلاق زوجته عند عمر رضي الله عنه مدعياً أنه لا يحبها فقال عمر: (أوكل البيوت بني على الحب) وفي كلامه إشارة إلى نسبية الحب ؛ فما هو الحب بالضبط؟ الأمر نسبي جداً فلا بد أن يكون هناك جامع أوسع من التقوى والألفة والراحم حتى يقوم البيت ويسعد أهلوه.
8- غياب القدوة العملية : وقد ذكر عن السلف أن واحدهم كان يوصي مؤدب أبناءه بقوله: (ليكن أول إصلاحكَ لهم إصلاحُكَ لنفسكَ فإن الحسن عندهم ما فعلت والقبيح عندهم ما تركت) فالقدوة العملية أهم بكثير من القدوة اللسانية ، وقد فكرت كثيراً في سبب أن كثرة من الآباء والأمهات من الجيل السابق كانوا مربين عظماء رغم بساطة شديدة عندهم في العلم والثقافة والإمكانيات التربوية ؛ فوجدت أنهم كانوا قدوة عملية لأبنائهم تغني عن ألف فيلسوف تربية نظرية ؛ الأب البسيط الغير متعلم كان صادقاً مع الله فهز صدقه قلوب أبنائه ، والأم التي ما دخلت مدرسة قط كانت خشيتها لله خشية فطرية وتوجهها إليه توجه قلب مخلص فكانت ثمار ذلك في أبنائها وبناتها ؛ الكذب كان رذيلة قبيحة فصار شطارة وإداماً ، وعفة النفس ما كانت تفارق الناس إلا بفراق أرواحهم لأجسادهم فصارت عبئاً وسذاجة وتخلفاً ، والأب الذي يقول لابنه ألف مرة قم إلى الصلاة ؛ لا يدخل إلى نفسه أثراً مثل الأثر الذي يصنعه أب يقوم ابنه في الليل يجول في البيت فيجده في محرابه يصلي ركيعات وقد سالت دموعه على خديه ، وألف وصية بعدم الكذب من الأم لا تأخذ حظها في قلب ابن أو ابنة ما داموا يرون أباهم يكذب على أمهم وأمهم تكذب على أبيهم وعليهم وعلى الجيران ، والمجتمع يكذب بعضه على بعض ، ولحظة صدق عملية تغني عن مئات الكتب والخطب والمواعظ في التحذير من الكذب وصدق الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)18.
9- مما يخرب الأفراد والأسر والمجتمعات عدم تمييز الاستثناء من القاعدة وهذه فكرةٌ خطيرةٌ جداً ؛ فإذا فشا الكذب أو الرشوة أو الغيبة فما هو الحل؟ لا يوجد حل واضح وجذري ؛ الامتناع الكامل يصبح شبه مستحيل والغالبية من الناس تستبيح الأمر فتلغ فيه كما تشاء ، ومن المهام الأساسية لراعي الأسرة أن يفقهها بمفاسد المجتمع ويذكر لها المحرمات فإذا ذكر الكذب بين ضرره وحرمته ، مع كون راعي الأسرة قدوة عملية في ذلك ثم يبين المواقف الاضطرارية لذلك وكيف أن الضرورة تقدر بقدرها ؛ وإذا انتفت يبقى الحكم على الأصل ؛ وكذا في كل المفاسد ، وهذه الطريقة تجنب الإنسان الإحباط إذا أراد الاستقامة وتجنبه الانهيار في وجه مفاسد المجتمع ، وتجنبه كذلك فقدان التقوى فهو دائماً في حرج لا يستسلم للفساد ، ويحاول دوماً أن يبتعد عنه إلا إن أُكره إكراهاً مُلجِأ ًلا قدرة له على مقاومته فهناك يتعامل مع الأمر من باب الضرورة التي تنتهي بانتهاء أسبابها ويبقى المنكر فوق قلبه مثل ماء فوق شمع بارد لا يمتزج به أبداً مهما مكث فوقه وصدق الهادي صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول: (وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)19، وقد قال تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)20.
10- الزهد في الأجر وقلة الصبر وعدم معرفة النعمة: خرج الإمام الزاهد المجاهد المحدث الفقيه عبد الله بن المبارك يوماً مع سرية في المسلمين مرابطة في الثغور في ليلة شديدة البرد ؛ فقال لهم: أترون أحداً يشرِكُنا في الأجر هذه الليلة ؛ فقال أصحابه: ما نظن أحداً يشركنا في الأجر الليلة ، فقال لهم: أنا أخبركم بمن له مثل أجرنا! رجل قام في الليل يتفقد أطفاله الصغار فوجد أحدهم قد انحسر عنه غطاؤه فرد عليه الغِطاء.
اللهم فقهنا في دينك، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا خيراً يا عليم (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون)21.
الخطبة الثانية: لاستقرار الأسرة لابد من عوامل أهمها مايلي:
1- وجود مرجعية شرعية يخضع لها الجميع.
2- توسيع الخبرات الحياتية وإدراك الواقع.
3- الاستزادة الدائمة من الخير مهما قلت.
4- التصور الصحيح للعلاقات الأسرية.
5- الحسم والجزم مع ناشري وحاملي وموزعي ومعززي السلبيات في المجتمع.
6- نسيان آلام الماضي والاستئناف من جديد.
7- فهم الفروق الفردية واختلاف النفسيات.
8- بناء القدوة العملية.
9- تمييز الاستثناء من القاعدة وتقدير الضرورة بقدرها.
10- معرفة النعمة والحرص عليها.
وأخيرا نذكر بأن :
- المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ولا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وبين أيديكم ألف محور هجرة جهاد ونية فاعملوا لها.
الإحالات:
1- الروم ، 11.
2- النساء ، 1.
3- العنكبوت ، 69.
4- لقمان ، 22.
5- البقرة ، 206.
6- العنكبوت ، 2.
7- البقرة ، 216.
8- مسلم ، صفة القيامة والجنة والنار ، 2818.
9- الروم ، 21.
10- مسلم ، الرضاع ، 1469.
11- الترمذي ، الزهد ، 2317 ، ابن ماجة ، الفتن ، 3976. وغيرهما
12- النور 19.
13- النور 15.
14- أحمد ، مسند الشاميين 17372.
15- هود 114.
16- أخرجه البخاري في صحيحه معلقاً ، كتاب العلم ، 127.
17- مسلم ، المقدمة.
18- الصف 2-3.
19- ابن ماجه ، الطلاق ، 2045.
20- النحل 106.
21- الجاثية 15.