في دارها جلست ترقب الطريق من مكان عالي عندها، في لهفة يشوبها شئ من القلق، وإلى جانبها غلامها ميسرة، يملأ سمعها بحديث مثير عن رحلته مع محمد، أما محمد فقد كان عائدا لتوه من رحلته الأولى التي تاجر فيها بأموال خديجة، وقبلها كان بين القافلة عائدا من رحلة الصيف التي كانت إلى الشام، وبينما هم في طريقهم إلى أم القرى، وقبيل وصولهم، قال له تابعه ميسرة غلام خديجة، سأسرع أنا إلى سيدتي فأخبرها بما صنع الله لها على وجهك، فإنها تعرف ذلك لك، وتركه محمد يمضي، أما بعد أن وصلا إلى مكة، وأناخت إبل القافلة على تراب مكة، مضي محمد على بعيره قاصدا دار خديجة بعد أن طاف بالبيت العتيق، وسرعان ما ظهر لعين خديجة محمد الصادق الأمين يدنو من الدار بطلعته الوسيمة وملامحه الطيبة النبيلة، فعجلت إليه تستقبله لدى الباب مرحبة، تسبقها تهانيها بسلامة العودة، ورفع إليها وجهه شاكرا، ولما تلاقت الأعين خفض بصره، وبدأ يحكي لها عن أخبار الرحلة، وأرباح التجارة، وبعدها اتجه إلى منزل عمه أبي طالب وهو يحس بالرضى والإرتياح بعد أن عاد من رحلته موفقا سالما، وهنا تجدر الإشارة بما حدث قبل هذه الرحلة، فبعض المراجع تذكر أن خديجة هي التي عرضت على محمد أن يخرج في مالها إلى الشام تاجرا، والبعض الآخر يروي هذا الحوار بين أبو طالب ومحمد ابن أخيه عبد الله وقول العم "يا ابن أخي، أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا وألحت علينا سنون منكرة، وليس لنا مال أو تجارة، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام وخديجة تبعث رجالا يتاجرون في مالها، ويصيبون منافع فلو جئتها لفضلتك على غيرك لما يبلغها عنك من أمانتك وطهارتك، وإن كنت أكره أن تأتي الشام، وأخاف عليك، وقد بلغني أنها استأجرت فلانا ببكرين، ولسنا نرضى لك بمثل ما أعطته، فهل لك في أن أكلمها" ويقول محمد "ما أحببت يا عم" ترى هل كلم خديجة العم؟ أم ذهبت خديجة إلى محمد؟ الأهم ما عرف عن خديجة بنت خويلد من أنها أمرأة تاجرة ذات مال وشرف، تستأجر الرجال في أموالها، وتقارضهم إياه ببعضه تجعله لهم، وكانت قريش أهل للتجارة، وعرفت خديجة بحديث أهل قريش، عن كرم أخلاق محمد وصدق حديثه وعظمة أمانته، والأكثر أهمية أن تمت تلك التجارة التي فتحت بابا لخديجة بأن تلتقي بمحمد، وكانت عريقة النسب، وصاحبة ثروة، وعرف عنها العقل والحزم، وبالتالي فهي كانت مطمع لسادات قريش، ولكنها كانت تعرف ما وراء الرجال، وتعرف أنهم طلاب مال لا طلاب نفوس، وأن أبصارهم ما توجهت إليها إلا للإستفادة من ثرائها، وكانت ترى أن أي زواج بهذا الشكل يكون عنوانه الطمع، ولكن خديجة تمنت محمد حتى أنها كشفت سرها لصديقتها نفيسة بنت منبه، التي ما إن خرجت من عندها حتى إنطلقت إلى الصادق الأمين وقالت يا محمد ما يمنعك عن تتزوج، فقال ما بيدي ما أتزوج به، فقالت له نفيسة، فإن كفيت ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة فهل تجيب؟ فرد متسائلا: ومن؟ فلما قالت له خديجة بنت خويلد، فقال إن وافقت فقد قبلت، وذهب محمد وفي صحبته عماه أبو طالب وحمزة، وتكلم أبو طالب عن محمد، وبعدها أثنى عليه عمها عمرو بن أسد، وطلب صداق قدره عشرون بكرة، وتزوج محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي، وخديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وكان هو في منتصف العشرينات من العمر أم هي فكانت في الأربعين، واستغرق الزوجين السعيدين في هناء وسعادة خمسة عشر عاما، وكانت خديجة لمحمد الأم الرؤوم في حنانها وعطفها وبرها، وأتم الله نعمته عليهما فرزقهما بالبنين والبنات، القاسم، وعبد الله، وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، ولكنهما ذاقا لوعة الفراق في الولدين، ولما شارف محمد الأربعين، كان قد أحب الخلوة في غار حراء، وما كان يرضى عن موقع الأصنام بالكعبة، وسفه قومه وضلالهم، ولما نزل عليه الوحي في ليلة القدر وهو في الغار، انطلق إلى زوجته خائفا مرتعد الأوصال، حتى وصل إلى حجرة نومه حدثها بما كان، فضمته إلى صدرها، وهتفت في ثقة ويقين وكان أهل الجزيرة العربية يتحدثون عن قرب بعثة نبي الأمة "الله يرعانا يا أبا القاسم، أبشر يا ابن العم واثبت، فو الذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، والله لا يخزيك الله أبدا، انك لتصل الرحم وتصدق الحديث، وتحمل الكل وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق" ومع ما قالته خديجة نعم محمد بالأمن والهدوء، ولما وجدته راح في النوم خرجت إلى الطريق الخالي، إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، بينما مكة تنعم بغفوة الصباح، وحكت له ما قال محمد وكان قعيدا من الشيخوخة ولكنه انتفض وقال "قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقتني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر، الذي كان يأتي موسى وعيسى، وانه لنبي هذه الأمة فقولي له فليثبت" وذهبت إلى حبيبها تزف إليه البشرى، ولما وجدته في نومه عز عليها أن توقظه، ثم إذا به ينتفض في فراشه، ويتفصد العرق من جبهته، ويبدو عليه وكأنه يصغى إلى محدث غير مرئي ثم يتلو في بطء ويستعيد ما سمع، وكان ما سمع سورة المدثر، وتلقته خديجة وحكت له ما سمعت من ورقة بن نوفل، ولما انتهت استدار إلى فراشه وقال "انتهى يا خديجة عهد النوم والراحة، فقد أمرني جبريل أن أنذر الناس وأن أدعوهم إلى الله وإلى عبادته، فمن ذا أدعو ومن ذا يستجيب؟" وبارك زوجه أول من آمن به، وقام للقاء ورقه بن نوفل، الذي صاح وقال "والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة" واسترسل يحكي للنبي أنه سيكذب وسيؤذى، وقال، وإن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه" وسأله محمد صلى الله عليه وسلم "أو مخرجي هم" فأجاب ورقة أن كل رجل جاء بمثل ما جئئت به عودي، وطابت نفس محمد ورجع إلى بيته ليبدأ نضاله، وكانت معه صابرة مطمئنة، تعاونه على تحمل ما يلقاه من الأذى من آل قريش، ولما أخرجته قريش من مكة أقامت معه في شعب أبي طالب ثلاث سنوات، ولما تهاوى الحصار أمام الإيمان الصادق، وآن للنبي أن يعود عادت معه صابرة مؤمنة، وبعد نحو ستة أشهر مات عم الرسول أبو طالب، ولم تشهد السيدة خديجة مأتمه لأنها كانت في فراشها الطاهر تودع الدنيا، ثم أسلمت الروح بعد ثلاثة أيام في شهر رمضان، بين يدي محمد صلى الله عليه وسلم وهي في منتصف الستين