من المفيد أن نبحث عن آمد في سياقها التاريخي مكاناً وزماناً، ويوصلنا هذا السياق إلى أنها مدينة كردية عريقة، تقع في المنطقة الكردية بجنوب شرقي تركيا، وتسمى الآن (ديار بَكْر)، ولعل هذه التسمية هي من موروثات العهد العثماني، وقد ذكرها ياقوت الحموي (ت 626 هـ) في كتابه (معجم البلدان، 1/76) قائلاً:
" هي أعظم مدن ديار بكر وأجلُّها قدراً، وأشهرها ذكراً، ... وهي بلد قديم حصين ركين، مبنيّ بالحجارة السود على نَشَزٍ [ مرتفع ]، دجلة محيطةٌ بأكثره، مستديرةٌ به كالهلال، وفي وسطه عيون وآبار قريبة نحو الذراعين، يُتناول ماؤها باليد، وفيها بساتين ونهر يحيط بها السور، ... وفُتحت آمِد في سنة عشرين من الهجرة، وسار إليها عِياض بن غَنْم بعدما افتتح الجزيرة، فنزل على أن لهم هيكلهم وما حوله، وعلى ألا يُحدثوا كنيسة، وأن يُعاونوا المسلمين ويرشدوهم، ويُصلحوا الجسور، فإن تركوا شيئاً من ذلك فلا ذمّة لهم ".
وها نحن أولاء نرى أن ياقوت انطلق في التعريف بآمد بدءاً من العهد الإسلامي، أما قبل ذلك، فلا شيء، سوى الإشارة إلى أنها " بلد قديم، حصينٌ ركين "،
ومع ذلك فقد فرّق ياقوت بين دلالة كل من اسمي (آمد) و(ديار بكر)، وأوضح أن اسم (ديار بكر) كان يطلق على المنطقة التي كانت آمد عاصمتها الإقليمية، ولم يكن اسماً لمدينة آمد نفسها، تماماً كما نقول الآن عن مدينة (حلب) إنها عاصمة المنطقة الشمالية في سوريا؛ أي أنها أكبر مدن شمالي سوريا.
ومعروف في كتب التاريخ الإسلامي أن القبائل العربية كانت تتبع مسارات الفتوحات الإسلامية، وكانت الدولة تبيح لتلك القبائل أن تتخذ من البلاد المفتوحة مراعي لأنعامها، وعندما فتح العرب المسلمون الجزيرة- وهي تقع بين نهري دجلة والفرات، وتمتد من العراق جنوباً إلى المناطق التابعة لمدينة آمد شمالاَ، مروراً بشمالي شرقي سوري- انتشرت قبائل ربيعة في المناطق التابعة للموصل، فسمّيت (ديار ربيعة)، وانتشرت قبائل مُضَر في المناطق التابعة للرقة، فسمّيت (ديار مُضَر)، وانتشرت قبائل بَكْر في المناطق التابعة لآمد، فسمّيت (ديار بَكْر).
وهكذا فقد أُطلق الاسم العربي (ديار بكر) على المناطق التي كانت تابعة مدينة آمد حاضرتها وعاصمتها الإداريةً، أما آمد نفسها فاحتفظت باسمها التاريخي العريق، والدليل على ذلك أن الجغرافيين والمؤرخين المسلمين سمّوها (آمد)، ولم يسمّوها (ديار بكر)، وأطلقوا على المشاهير من أبنائها لقب (الآمدي)، ولم يقولوا: (الديار بكري)، وأحسب أن هذه النسبة الجديدة ظهرت في العهد العثماني، وتحوّلت بتأثر قواعد اللغة التركية إلى صيغة (الديار بكرلي).
آمِـد.. وميديا
ويقول ياقوت الحموي في تفسير اسم آمد:
" وما أظنها [ آمد ] إلا لفظة رومية، ولها في العربية أصل حسن، لأن الأمدَ الغايةُ، ويقال: أمِد الرجل يأْمد أَمَداً، إذا غضب، فهو آمِدٌ... والجامع بينهما أن حصانتها مع نضارتها تُغضب من أرادها ".
ونستدل من قول ياقوت على أنه لا يعرف شيئاً عن تاريخ آمد قبل الفتح الإسلامي سوى أنها كانت على صلة ما بالروم البيزنطيين، ظاناً أن الاسم رومي، ثم سرعان ما يعود إلى نهجه المعروف في البحث عن دلالات عربية لبعض الأسماء غير العربية، ويتوصل إلى تفسير لا يخلو من سطحية حول العلاقة بين (الأمد) و(آمد)، ولا أدري كيف استطاع التوفيق بين أن اللفظة رومية (لاتينية) وأنها من أصل عربي في الوقت نفسه؟
ومهما يكن فلا عتب على ياقوت، فهو رومي الأصل، ولا نعرف شيئاً عن اسمه الرومي، وقد اختُطف وهو صغير من دياره، وبيع في الأسواق، فاشتراه تاجر حموي الأصل، بغدادي الإقامة يدعى عَسْكَر، وكان عسكر أمياً، فحرص على تعليم عبده ياقوت، ليعينه في ميادين التجارة، ثم كلّفه بالتجارة في أرجاء العالم الإسلامي حينذاك، وهكذا فإن ياقوت هو في النهاية تاجر يبحث عن تبرير ما لتسويق بضاعته، حتى وإن كانت بضاعته مادة تاريخية.
وعندما نضع الأمور في نصابها، وننظر إلى آمد في سياقها الجغرافي والتاريخي الحقيقي، نجد أنفسنا مضطرين إلى الاختلاف عن ياقوت في تفسيره، ولاتضح أن آمد كانت- وما زالت- واقعة في صميم المنطقة الكردية، وهي المنطقة ذاتها التي كانت تابعة قبل الميلاد للدولة الميتانية، ثم للدولة الميدية، ومعروف أن الميتانيين والميديين هم من أسلاف الكرد قبل الميلاد، ومن المفيد أن نتذكر أن حدود دولة ميديا كانت تقف عند الشاطئ الشرقي لنهر هاليس (قيزيل إرماق)، لتبدأ حدود دولة ليديا الإغريقية من الشاطئ الغربي لذلك النهر، ولو تتبّعنا اليوم مواطن الكرد في شرقي تركيا لوجدناها تتطابق والمناطق التي كانت تتبع الدولة الميدية قديماً.
واعتماداً على هذه الحقائق التاريخية والجغرافية نرجّح أن لاسم (آمد) علاقة ما بالميديين، وثمة مدينتان أخريان تحملان اسماً مقارباً لاسم آمد، هما مدينة (هَمَذان= آمدان)، وكانت تسمى (أكباتانا) أيضاً، وكانت عاصمة الدولة الميدية، ومدينة العمادية (آمادي = آميدي) في إقليم كردستان بشمالي العراق، وهي من المدن الكردية القديمة. وللمرء أن يتساءل: كيف تكون آمد كردية في الوقت الذي ذكر ياقوت- وتؤيده أخبار الفتوحات الإسلامية- أن الذين وقّعوا اتفاقية دخول العرب المسلمين إلى آمد كانوا من المسيحيين، إذ وردت بنود حول الهيكل والكنائس، مع العلم أن الكرد كانوا من أتباع العقيدة الزردشتية قبل الإسلام، ولا نجد أية إشارة إلى الكرد والمعابد الزردشتية في تلك الاتفاقية؟!
احتكام إلى التاريخ
ها هنا لا بد من الاحتكام إلى السياق التاريخي، فبعد أن خسر الميديون دولتهم سنة (550 ق.م)، وورثهم جيرانهم- وربما أقاربهم- الفرس الأخمينيون، أصبحوا تابعين للفرس سياسياً وثقافياً، وكانت كردستان بأجمعها تنضوي تحت لواء الأخمينيين، ولما أسقط الإسكندر المكدوني الدولة الأخمينية سنة (331 ق.م) كانت كردستان تتبع الدولة السلوقية الإغريقية حيناً، ثم الدولة البرثية (الأرشاكية)، ثم الدولة الساسانية، لكن مناطق منها كانت تقع تحت الهيمنة الأرمنية في المرحلة التي أسس فيها الملك الأرمني ديكران الثاني إمبراطوريته (حكم بين سنتي 54 – 34 ق.م).
وعندما ورث الرومان إمبراطورية الإغريق واستولوا على ليديا، اجتازوا نهر هاليس، وتوسّعوا شرقاً في أراضي ميديا، بل فرضوا هيمنتهم على أرمينيا نفسها أحياناً، وبعد أن انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى جناح شرقي عاصمته بيزنطة (القسطنطينية)، وجناح غربي عاصمته (روما)، خاض البيزنطيون صراعاً مريراً وطويل الأمد ضد الفرس الساسانيين، وخرجت أرمينيا من ساحة الصراع، وأصبحت كردستان موزّعة بين الفرس والروم، وكان الروم قد أنشؤوا قاعدة هامة لهم في نصيبين، وكانت مناطق نفوذ كل من الدولتين في كردستان تتسع وتضيق تبعاً لمراحل القوة والضعف التي كانت تمر بها كل دولة من الدولتين العظميين في ذلك الزمان.
وحينما بدأت الفتوحات الإسلامية في كردستان عامة كانت بلاد الكرد في جنوب شرقي تركيا تقع تحت هيمنة الدولة البيزنطية، ومعروف أن الدولة الحاكمة، ولا سيما إذا كانت غريبة عن الشعب، تُمركز رجالاتها وقياداتها ومؤسساتها- سواء أكانت إدارية أم ثقافية أم اقتصادية- في المدن والحواضر الكبرى، وهذا ما حصل في الأقاليم الكردية الواقعة تحت الهيمنة البيزنطية، وكان من الطبيعي أن تقوم الجهات البيزنطية الحاكمة بأمور الحرب أو التفاوض مع العرب المسلمين الفاتحين، وأن تحرص قبل كل شيء على تأمين مصالحها في بنود الاتفاقيات.
أضف إلى هذا أن الكرد كانوا يدينون بالعقيدة الأزدائية (الميثرائية)، ثم اعتنقوا العقيدة الزردشتية تحت تأثير السياسات الثقافية الأخمينية والساسانية خاصة، إذ صحيح أن النبي زردشت نفسه كان ميدياً نسباً وإقامة، لكن يبدو لي أن دعوته لقيت قبولاً عند الفرس في الدرجة الأولى، وأصبحت إيديولوجيا وظّفها الفرس على نحو ذكي للقضاء على الدولة الميدية.
والمهم أن معظم الكرد كانوا على الزردشتية قبل الفتوحات الإسلامية في القرن السابع الميلادي (الأول الهجري)، وكانوا على خلاف عقدي مع جيرانهم الأرمن الذين اعتنق ملكهم درطاد الثالث المسيحية في أوائل القرن الرابع الميلادي، كما كانوا على خلاف عقدي مع جيرانهم البيزنطيين الذين اعتنق ملكهم قسطنطين المسيحية حوالي سنة (330 م)، ورغم الجهود الأرمنية والبيزنطية لم يعتنق المسيحية إلا عدد قليل جداً من الكرد، وكان الكرد في غالبيتهم من المزارعين والكُوچَر (الرُّحّل)، ويقيمون في الأرياف والمراعي الجبلية (زُوزان)، ومن الطبيعي ألا نجد لهم حضوراً في الاتفاقيات المعقودة بين الروم والفرس، وبين الروم والعرب الفاتحين.
منقول من مقالة للباحث الكوردي د.أحمد خليل