يعتبر معظم المؤرخين و علماء الشرقيات الشعب الكردي أحد أقدم الشعوب في منطقة الشرق الأدنى, الا أن الكردية كعرقية محددة تشكلت منذ حوالي 1500 سنة فقط. و اذا كانت بلاد الرافدين هي مهدا الحضارة فان كردستان - كردستان ايران و شرق كردستان العراق وأجزاء من كردستان تركيا تحديدا - هي مهد البشرية, فهي احدى أولى الأماكن التي استقر فيها الانسان و انتقل من حياة الجمع و الالتقاط الى الحياة الحضرية, و في جبال كردستان بدأ الانسان لأول مرة في تاريخه بزراعة الحبوب و البقول و تدجين الحيوانات, و في مواقع التنقيبات الأثرية في كردستان اكتشف أقدم أثر لصناعة الأواني المعدنية, كما اكتشفت أولى الآثار للفنون التطريزية و الصناعات الغذائية (1).
و في المراحل القديمة من التاريخ قامت على أرض كردستان ممالك و مدن عديدة للشعب الهوري و هو جد الشعب الكردي الحالي, قامت في الفترة التي كانت فيها حضارة الشرق الأوسط في أوج ازدهارها و قد شاركت هذه الممالك في بنائها الى جانب الامبراطوريات الكبرى التي حكمت المنطقة. من أبرز هذه المدن - الممالك : سوبارو ( كردستان العراق و ايران ), ميتاني ( جنوب منطقة الجزيرة, أثار تل موزان و سري كاني ), مانا ( كردستان ايران و العراق ), كاردا ( كردستان تركيا ), الامبراطورية الكوتية ( شملت معظم كردستان الحالية مع مناطق أخرى ), لولوبي ( كردستان ايران )(2). تبدأ المرحلة الثانية في حياة الكرد بوصول القبائل الميدية الى المنطقة ( نحو 1100 ق.م ) مهاجرة من القفقاس و استيطانها معظم أراضي كردستان مع أجزاء من فارس و أذربيجان, و يعتبر الميديون الأسلاف المباشرين للشعب الكردي (3). قام الميديون بصهر هوريي كردستان القديمة في بوتقتهم الاثنية و سرعان ماتوحدوا و أسسوا امبراطورية " ميديا " مترامية الأطراف بعد أن أسقطوا الامبراطورية الآشورية و دخلوا بلاد آشور. أسس الكرد الميديون أول حكومة مركزية على أرض ايران القديمة و كانوا أول من استخدم أسلوب ال" كريلا " في القتال, كما كانوا " ينتخبون " ملوكهم كما يقول المؤرخ اليوناني " هيرودوتس ". بقيت الامبراطورية الميدية حاكمة للمنطقة الى أن قام الفرس الاخمينيون باسقاطها بقيادة الملك " قورش ".
دخل الكرد الاسلام بوصول الفتوحات الاسلامية الى المنطقة, و منذئذ أصبحوا من أشد المخلصين للاسلام و المدافعين عنه, و برز منهم قادة و شخصيات عديدة وسعت مدى الفتوحات الاسلامية و دافعت عن المنطقة من الغزوات الخارجية من أشهرها الفاتح الاسلامي أبو مسلم الخراساني و البطل صلاح الدين الأيوبي محرر القدس و مؤسس السلالة الأيوبية. منذ أواخر العصر العباسي حتى فترة قريبة من سقوط الامبراطورية العثمانية تمتع الكرد بحكم ذاتي واسع النطاق في مناطقهم فقامت في كردستان امارات و دول و بلاطات هامة أشهرها الدولة المروانية و الشدادية و امارات سوران, بهدينان, بوتان و أردلان.. بالاضافة الى دول أخرى خارج حدود كردستان أشهرها بالطبع السلطنة الأيوبية و الدولة الزندية.
ساهم الكرد في بناء الحضارة الاسلامية الى جانب الشعوب الأخرى و برز منهم العديد من العلماء و المفكرين الذين أبدعوا في شتى ميادين العلوم و الآداب و أغنوا الحضارة الاسلامية بنتاجاتهم المتنوعة مع أن أكثرهم خدموا ثقافة أخرى غير ثقافتهم و عملوا خارج حدود وطنهم كردستان. الا أن قومية هؤلاء الكردية تضيع وسط سيطرة الأممية الاسلامية في ذلك العصر, خاصة و أن أكثرهم دونوا أعمالهم باللغة العربية و عاشوا في مدن عربية.. مع أن ذلك لا يعني بأنهم ليس كردا, كما أنه من الملاحظ أن " المؤرخين " العرب يعتبرون هذه الشخصيات الكردية عربا, بينما يعتبر الفرس معظمهم " ايرانيين " ( و هو تعبير شوفيني يستخدم لاذابة غير الفرس في بوتقة القومية الفارسية ), أما عند الأتراك فحتى النبي محمد و السومريين و الهنود الحمر في أمريكا هم أتراك أقحاح, فلا نلومهم اذا ما قاموا بتتريك الشخصيات التي نتكلم عنها !!
سأحاول في هذا البحث الموجز أن أستعرض و بشكل مختصر أسماء أهم علماء و مفكري الكرد في عصر الحضارة الاسلامية مع نبذة قصيرة عن حياتهم و أبرز أعمالهم, مكتفيا بذكر الذين أكدت المصادر التاريخية كرديتهم.
أهم الشخصيات العلمية والأدبية الكردية في العصر الاسلامي:
ابن الأثير : عز الدين بن الأثير. ولد في مدينة " جزيره " - كردستان تركيا. أحد كبار المؤررخين في العصر الاسلامي, تمتع بثقافة واسعة و صاحب القائد صلاح الدين الأيوبي في معاركه. أشهر أعماله كتابه " الكامل في التاريخ " في 12 مجلدا, يبدأ فيه بالتأريخ منذ بدء الخليقة و حتى عصره معتمدا على منهج علمي مع ذكر شامل لكافة مظاهر الحياة و بشكل شمل معظم أنحاء العالم المعروفة آنذاك. تعتمد كتبه على النقد و التعليل و الابتعاد عن الزخرفة الفظية مع تحليل ممتاز جعل رجال الفكر في الغرب يعتبرونه أحد أهم المؤرخين في تاريخ العالم.
زرياب : ولد ببغداد. يعتبر أكبر موسيقيي العصر الاسلامي. أعجب الخليفة هارون الرشيد بموهبته مما كان سببا في حقد و حسد أستاذه اسحق الموصلي عليه و تهديده له ففر مكرها الى الأندلس حيث نال رعاية الخليفة هناك و قام بتأسيس أول مدرسة لتعليم الموسيقا معروفة حتى الآن. أبدع زرياب في كافة أصناف الموسيقا فقام باختراع شكل " الموشح " و ابتكر العديد من المقامات الجديدة و أضاف وترا خامسا للعود و أدخل تحديثات هامة في أساليب التلحين و الايقاع. كان لزرياب و موسيقاه تأثيرا هاما على تطور الموسيقا الأوربية.
الدينوري : أبو حنيفة أحمد بن داوود. ولد في دينور - كردستان ايران. من كبار علماء النبات و الفلك في العصر الاسلامي. كان مثالا في اتقانه العديد من العلوم و تمتع احترام كبير من معاصريه. درس النبات في مناطق مختلفة معتمدا على التجريب و الاستنتاج و المقارنة كما أقام مرصدا فلكيا في بيته. أشهر أعماله كتاب " النبات " الذي أصبح عمدة لطلاب الطب و علم الأعشاب فلا يتخرج أحد الا بعد أن يستوعبه و يؤدي الامتحان فيه.
ابن تيمية : أحمد بن عبد الحليم. ولد في حران - كردستان تركيا, عالم دين شهير برع في الفلسفة و الفقه الديني, كان جريئا و مثيرا للجدل الى درجة كبيرة, سجن عدة مرات بسبب منافسته و تحديه لغيره من الفقهاء و المفسرين. كان يحرض الأمراء على الجهاد ضد المغول. من أشهر كتبه : " فتاوى ابن تيمية ", " الفرقان بين أولياء الله و الشيطان ", " الجمع بين العقل و النقل " و " منهاج السنة النبوية في نقض الشيعة و القدرية ".
بديع الزمان الهمذاني : ولد في همذان - كردستان ايران 969 م, من رواد الأدب العربي و الفلسفة, اخترع شكل " المقامة " و حقق شهرة كبيرة في عصره. من أبرز آثاره " الرسائل ", "المقامات " و " الديوان ". تصور مقاماته الحياة اليومية لعامة الناس بشكل كوميدي و هي تعتبر من روائع الأدب العربي.
ابن خلكان : أبو العباس أحمد بن محمد : من مدينة أربيل - كردستان العراق. كان من أئمة العلماء و اشتهر كقاض و مؤرخ و أديب. تنقل بين حلب و دمشق و تولى قضاء دمشق عدة مرات. أشهر آثاره كتاب " وفيات الأعيان و أنباء أبناء الزمان ". توفي بدمشق.
أحمد خاني : أديب و مفكر كردي, ولد في احدى القرى بكردستان تركيا وتنقل بين بايزيد و بدليس و أورفة للتحصيل العلمي. يعتبر رائد الأدب الكردي و أحد مؤسسي القومية الكردية. أهم أعماله ملحمته الشهيرة " مم و زين " التي ترجمت الى العديد من اللغات العالمية, بالاضافة الى بعض الدواوين الشعرية.
ابراهيم و اسحق الموصلي : من يهود كردستان المتأسلمين. الأب ابراهيم الموصلي : كان أشهر مغنيي عصره و كان صديقا للمهدي و الرشيد, ولد في الكوفة و قام بتدريس الموسيقا بالموصل و أشتهر بالتلحين و الغناء. توفي في بغداد سنة188هـ . الابن اسحق الموصلي : ولد في الري, كان ذو معرفة واسعة الا أنه ركز على الموسيقا قبل كل شيء و كان من أنصار المدرسة الكلاسيكية. برع في التلحين و الايقاع و ألف ألحانا و كتبا عديدة. يقال أنه أول من وضع تصنيفا للمقامات الشرقية و استطاع أن يتفوق على معاصريه. توفي سنة 235 هـ.
أبو الفداء : اسماعيل بن علي الأيوبي : جغرافي و سياسي و شاعر, ولد بدمشق و يعود نسبه الى شاهنشاه بن نجم الدين بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين الأيوبي. برع في علم الجغرافية و كان ملكا على حماة وبقي ملكا عليها حتى بعد خروجها عن سيطرة الأيوبيين. كان له مجلس علمي شهير و كان يرعى العلماء و يساعدهم. أهر آثاره كتابه " تقويم البلدان " الذي نال به شهرةواسعة و ظل أهم كتاب في علم الجغرافية باللغة العربية حتى العصر الحديث. توفي أبو الفداء سنة 732 هـ.
ابن فضلان : أحمد بن العباس. أحد أشهر الرحالة في الاسلاميين, قاد رحلة الى بلاد البلغار و الخزر و الروس استجابة لطلب ملك الفولكا. سجل تفاصيل غاية في الأهمية عن البلاد التي مر فيها. يعتبره مفكرو الغرب أحد أبرز أعلام التواصل الحضاري بين الشرق و الغرب. تفاصيل حياته و وفاته ليست معلومة بشكل كاف.
ابن شداد : أبو المحاسن بهاء الدين. مؤرخ و سياسي كردي, ولد في الموصل و درس ببغداد. اشتهر بالحكمة و رجاحة العقل. ولاه السلطان صلاح الدين الأيوبي قضاء العسكر و بيت المقدس, و قد رافق صلاح الدين في حروبه و دون أخبارها و وقائعها. عينه الملك غازي بن صلاح الدين قاضيا على حلب و بقي هناك حتى وافته المنية. أشهر كتبه " النوادر السلطانية و المحاسن اليوسفية " في وصف سيرة السطان صلاح الدين الأيوبي.
ابن النديم : محمد بن أبي يعقوب أبو الفرج. ولد في بغداد. كان من المعتزلة الشيعة, أهم كتبه " الفهرست "و هو أول تصنيف دقيق و موضوعي للحركات الثقافية التي ظهرت في عصره.
عبد الرحمن الكواكبي : ولد في حلب من أصل كردي. كاتب و مفكر و صحفي درس الشريعة الاسلامية و عمل في الصحافة. أسس جريدة الشهباء و اشتهر بمعارضته للحكم العثماني الاستبدادي فسجن عدة مرات و نفي الى مصر بسبب ذلك, توفي في مصر مسموما من قبل الأتراك على الأرجح. أشهر أعماله " طبائع الاستبداد " و " أم القرى ".
كما برز من الكرد في العصور الوسيطة شخصيات هامة أخرى جديرة بالذكر مثل الشعراء الكرد " الملا جزيري " و " فقيي ته يران " و " بابا طاهر همذاني ", و المهندس المعماري " المؤنس " و الموسيقيين " صفي الدين أورماوي " و " محمد الخطيب أربيلي " و المؤرخ " شرفخان بدليسي " و الرياضي الفلكي " محي الدين أخلاتي ", و فقهاء مثل " ابن صلاح الشهرزوري " و " سيف الدين آمدي ".. و في العصر الحديث نجد رائد الشعر الكلاسيكي العربي " محمود سامي البارودي " و الشيخ الفقيه " سعيد النورسي " و الباحث اللغوي " محمد كرد علي " و " جميل صدقي الزهاوي "..