«إذا اختفى النحل من وجه الأرض، تبقت للبشرية اربع سنوات قبل فنائها. فبدون نحل لا يكون تلقيح، وبدون تلقيح لا يكون نبات، وبدون نبات لا يكون حيوان، ثم لا إنسان»... هذه الكلمات المخيفة لا تنسب لشاعر يتبعه الغاوون وإنما لألبرت آينشتاين نفسه.
وتصبح هذه الكلمات المخيفة مرعبة إذا علمنا أن العلماء ينظرون بحيرة مطبقة الى حقيقة أن النحل - وخاصة نحل العسل المسؤول عن تلقيح النباتات - يختفي بالجملة في مختلف أرجاء العالم ولسبب أو أسباب لا يعلمها أحد حتى الآن.
وقد تنبّه أصحاب مزارع النحل والمزارعون والعلماء في اميركا الشمالية لهذه الظاهرة منذ العام 2006، وأطلقوا عليها اسم Colony Collapse Disorder «خلل انهيار مستعمرات النحل» الذي يشار اليها اختصاراً بالأحرف CCD.
وبحلول 2007 سُجل انخفاض في عدد النحل في الولايات المتحدة بنسبة 32 في المائة. وفي 2008 بلغ الانخفاض 36 في المائة، ثم 29 في المائة العام الماضي، ويتوقع لإحصاءات العام الحالي أن تكون بنفس الدرجة من السوء إن لم تكن أسوأ تبعا لمختلف المصادر العلمية التي ظلت تتناول هذا الخبر على صفحات الإنترنت خاصة في الآونة الأخيرة.
ويذكر أن المعدل المعتاد للنافق سنويا من النحل يتراوح ما بين 15 و20 في المائة. ولهذا فإن تلك النسب المرتفعة مصدر حقيقي للقلق، خاصة وأن السبب في اختفائه يظل مجهولا. وإذا كان ثمة خبر وحيد يبعث على الأمل، فهو أن الأضواء بدأت تسلط ساطعة على هذا الأمر مما يعني أن بوسع العلماء الحصول على تمويل أبحاثهم بسهولة أكبر.
أين ذهب؟
مصدر اللغز الحقيقي لا يتمثل في موت النحل في خلاياه ومستعمراته نتيجة المرض، وإنما في اختفائه عن وجه البسيطة وكأنه تبخر في الهواء. فيأتي المزارع يتفحص الخلايا وإذا بها خالية من كل النحل عدا الملكة وعدد قليل آخر يحصى على أصابع اليدين. فأين ذهب المختفي ولم لم يعد الى خلاياه؟ وإذا كان قد مات، فأين بقاياه؟
وفي حالات أخرى تحدث هذه الظاهرة للنحل العامل - الإناث - فقط فيختفي دون البقية. ماذا حدث له وأين ذهب ولِم لم يرجع؟ فهل سئم كثرة العمل بينما الذكور في راحة دائمة ولهذا قرر هجر الخلايا مرة والى الأبد؟ هذا السيناريو يستبعده العلماء تماما لأن النحل العامل «مُبرمَج طبيعيا» على العمل وهو جمع اللقاح - وتلقيح النباتات بالتالي - والعودة الى «المنزل» في آخر النهار ضمن روتين لا يتغير مطلقا. ويُعرف عن النحل قدرته على العودة الى خلاياه حتى عندما يكون على مبعدة ثلاثة كيلومترات منها. فهل تعرض لشيء ما أصاب قدرته الملاحية بالعطل فتاه عنه طريق الرجوع؟
كارثة في وادي اللوز
تتضح المشكلة بشكل خاص في وادي كاليفورنيا الأوسط الذي يضم 60 مليونا من شجر اللوز الذي تمتد صفوفه لمسافة 640 كيلومترا ويطرح 80 في المائة من إجمالي إنتاج اللوز في العالم. أما المأزق فهو ان هذا الوادي يعتمد كلية في هذا الإنتاج على نحل العسل المختفي الآن.
وهذه المهمة الملحمية تستلزم لها نصف تعداد النحل في عموم الولايات المتحدة وهو 80 مليار نحلة. وبينما يعرف عن الفراش الملكي هجرته السنوية من الولايات المتحدة الى المكسيك وعودته الى وطنه، فلا أحد يمكن أن يفكر بالطبع في تدريب 40 مليار نحلة على الطيران الى أشجار اللوز من أجل تلقيحها. والمتاح ليس سهلا بالضرورة، وهو تعبئة ألفي مقطورة بخمسمائة خلية في كل منها من مختلف أنحاء الولايات المتحدة والتوجه بها الى وادي كاليفورنيا وإطلاق النحل وسط أشجار اللوز لتلقيحها.
خدمات مجانية
بالطبع فإن المنفعة الاقتصادية التي تجنيها الدول على ظهر النحل تتجاوز انتاجه العسل الى الفائدة الكبرى وهي أن ثرواتها الزراعية والنباتية الأخرى ربما تعتمد كليا أو رئيسيا أو جزئيا عليه كأهم أداة للقاح. وفي بريطانيا، على سبيل المثال، قدر «مكتب التدقيق القومي» قيمة تجارة التجزئة المتصلة عضويا بلقاحه بحوالي 1.5 مليار دولار سنويا.
وأهم ما في هذا الأمر هو أن تلقيح النحل النبات «خدمة مجانية» لا تدفع لقاءها الحكومة فلسا واحدا. ولا يعلم أحد بالضبط الأثر الاقتصادي الذي سيحدثه تناقص أعداد النحل على ذلك النحو في بريطانيا وحدها. لكن الخبراء يقولون إنها، بالإضافة الى خسائرها الاقتصادية الناشئة عن غياب تلك الخدمات المجانية، فربما اضطرت لاستيراد السواد الأعظم من مستهلكاتها من الخضروات والفاكهة وبأغلى الأسعار بسبب الشح العالمي الذي سيلحق بهذه المنتجات الزراعية.
أخبار سارة أخيرا؟
وليس أن العلماء لا يدركون سر اختفاء النحل وحسب، بل انهم لا بعلمون ايضا عدد المختفي منه أو معدلات اختفائه. ولذا فهم يبحثون في سائر الاحتمالات التي يمكن ان تكون وراء هذه الظاهرة المحيّرة. والأمل هو أن مجرد العثور على طرف الخيط الصحيح سيكفل على الأقل المفتاح الى الحفاظ على المتبقي منه ومساعدته بالتالي على التكاثر من جديد.
على أن صحيفة «نيويورك تايمز» خرجت الأربعاء الماضي بأنباء سارة تولدت من أبحاث مكثفة مشتركة بين العلماء العسكريين في ميريلاند وعلماء الحشرات في مونتانا. وفي ورقة كتيها هؤلاء، جاء أن بالوسع الآن توجيه أصبع الاتهام لشراكة خبيثة بين فطر وفيروس ينشطان في الأجواء الباردة الرطبة ويؤثران على النحل بتعطيل عمل جهازه الهضمي. أما الكيفية التي يحدث بها ذلك فغير معروفة حتى الآن، ويقول اولئك العلماء إنها ستكون موضع بحوثهم التالية.
ويذكر أن العلماء في جامعة كاليفورنيا، بسان فرانسيسكو، كانوا قد أشاروا سابقا الى أن الفطر جزء على الأرجح من المشكلة. وقالت دراسات أخرى إن فيروسا تقوم تركيبته الأساسية على حمض الكروموسوم ربما كان جزءا آخر من المشكلة. لكن فريق ميريلاند - مونتانا استخدم نظام برمجيات جديد طُوّر للاستخدامات العسكرية وتوصل به الى أن فيروسا تقوم تركيبته الأساسية على الحمض النووي يتحالف مع فطر يسمى N. ceranae «إن. سيراناي» لتعطيل عمل الجهاز الهضمي في النحل.
احتمالات أخرى
رغم أن بحوث فريق ميريلاند - مونتانا قد تكون هي بداية الطريق، فإن هذا يظل احتمالا لا ينفي بقية الاحتمالات. وتتعدد هذه الأخيرة ولا يعرف ما إن كان أحدها منفردا هو المسؤول عن اختفاء النحل أم أن اثنين أو أكثر منها تتضافر في إحداث الظاهرة. ومن هذه ما يلي:
* السوس (العُث): يقال إن فصيلتين من السوس هما «فاروا» و«اكرابيس وودي» كانتا وراء انخفاض أعداد النحل حول العالم في الثمانينات. ونسبت اليهما أيضا أكبر خسائر الولايات المتحدة من النحل في تاريخها خلال شتاء العام 1995 - 1996 إذ ان بعض الولايات سجلت خسائر تتراوح بين 30 إلى 80 في المائة منه. ولهذا يبقى السوس في أعلى قائمة الجهات المتهمة.
* مبيدات الحشرات: يعرف أن رش المبيدات على المزروعات يقتل أو يضعف مقاومة النحل إذا أسيئ استخدامه. لكن العلماء يقولون إن الأرجح إنه ليس بين أقوى الأسباب المرشحة لأن تكون وراء الانخفاض الأخير في أعداد النحل لأن المبيدات ظلت تستخدم لزمن طويل بدون هذا التأثير الدرامي.
* الأغذية المعدلة وراثيا: يشار أيضا الى أن النباتات المعدلة وراثيا ربما كانت هي السبب في موت النحل خاصة بالنظر الى أنها تكنولوجيا جديدة بدأت تنتشر قبل أعوام قليلة وتزامنت بالتالي مع بدء الظاهرة. ورغم أن السُمّيات البكتيرية المصاحبة لهذه التكنولوجيا تؤثر على الفراش والعثة والخنافس أو تقتلها، فلا يعرف أن النحل يتأثر بها بالدرجة نفسها. على أن هذا لم يُثبت بشكل قاطع ولهذا يذهب البعض للقول إنها تقتل النحل في الواقع أو تغيّر سلوكه على الأقل.
* الهواتف الجوّالة: تناولت وسائل الإعلام مسألة الإشعاعات المنبعثة من الهواتف الجوالة ومحطات تقوية إشاراتها وأثرها على البشر. ومازال العلماء يتفقون ويختلفون حتى اليوم حول ما إن كان لهذه الإشعاعات أي آثار ضارة بالصحة فعلا. ولكن بعد ظاهرة اختفاء النحل ذهب فريق منهم للقول إن تلك الإشعاعات هي السبب.