مصطفى سعيد
(1)
ارتطم كتفه بكتفي بعنفٍ خاطف، أبعدَ من الفجأة، كصاعقة اصطكت ببعضها عند منعطف الردهة، دون فرقعة ترمي بلاء نورها على حيزٍ ضيق يتّسع من هزيعها.. حدث ذلك سريعاً، كوميض فلاشٍ حاد يُبهر خشوع عينٍ ساجدة.. كلانا شهق وبحلق، وكلانا وقع ضوء الارتطام عليه تساقطاً حاداً مثلما يتلو الراهب كلماتٍ مقدسة في وجه ملحد، وكما تبعث تراتيلٌ من سورة سبأ الرعشة في جسد ممسوس..
أصابتني شظايا مسه كصفعةٍ أشعلت زمهريراً، نطقت عيناه بشرارةٍ جامحة كأنما نار اللؤم توقد من يأفوخه، لتُطهى الرؤوس المجتثة من قديم وحديث الحروب في حممه.. أومأت برأسي لا استسلاماً ولا تدحرجاً، بل تأسفاً، ربت على كتفه ندماً على فعلٍ نزل كالموت والقدر لم أقترفه، تضاد مع شعور الذنب، سحب كتفه من تحت يدي كأني كنت سأدق فيه رمحاً، داهساً على اعتذاري مغادراً دون أن ينبس ببنت شفة، تلك الهنيهة الحاسمة تشبه الهنيهة الخالدة، يوم ولادة التاريخ الأولى لأحد أهم بنيه..
الشر..
ولادةً قسرية أم قيصرية لا أعلم...!
لكني أعلم كسائر البشر أن المخاض الأحمر حدث بيد الإنسان ذاته..
بقى المشهد التراجيدي يعيد نفسه كلما جاء ذكر السكون، أفرده مراراً في غرف العقل، تارةً أشنقه وتارةً أداعبه لأستدرجه إلى متاهة البوح، لكن المتاهة تلتف حولي وحول الكلام بوثاق أسئلةٍ عدة تلجأ للخطف كآخر منفذٍ لها لتلفت الأنظار نحوها، طارحةً مطالبها للإجابة عنها.. باحثاً عن سبب تمرد خيال ذلك الرجل عليَّ بالذات وثورته المجردة من المعاني، كيف هو وليس غيره تعلق تفاصيله بإلحاحٍ في شبكة الفضول رغم برهة اللقاء محدثةً رجفة لكلينا، كيف أني لم أستطع نطق حرفٍ أمامه رغم تصرفه المتبرئ من الرصانة..
كنت خارجاً وكان داخلاً إلى مكتب أشهر محامي في البلدة، قصدته بتخطيطٍ مسبق مع القدر لأراه، لم أكن أعتقد أن الأقدام ستجوب الزحام لألقي السلام على صديقٍ لا يستحق السلام، يومها أدركت أن الحياة كلها لا تملك خيارها، ورضعت حلمة الحقيقة التي لا مفر منها، بأن كلمة الصدفة هي بحدِّ ذاتها محض افتراءٍ عارم على نسق الأحداث الصارم في أيامنا...
لا أعلم لماذا بقى زمهريره عالقاً بي وملتصقاً بشعر جسدي يتكاتف كلاهما ليحدثا القشعريرة لو أوقدت حطباً في صدري.. مكثت صورته في رأسي وظلت سحنته تجتاح هضاب مخيلتي كلما تنهدت، انتفضت الكلمات وبدأت بجمع الصرخات لتناضل في جوفي لتحدث الانقلاب وتعلن دستورها وأول بنودها، أن ثمة أمرٌ سحيق جاثماً في بئرٍ عميق لا قرار له وراء تلك النظرة وخلف ذلك الرجل الهالك، علمت بعدها أن حدسي زعيم ثورة الكلمات والصرخات لم يخذلني عندما ضخم الأمر أمامي ليصبح بضعف حجم الشمس..
سألت صديقي (عزت) - المحامي المتدرب عنه مراراً لكنه لم يجب إلاّ إجابة مزعزعة، كإجابة سجينٍ سياسي، لم تشفي غليلي أنه ابن السيد بندر..
بندر..
كنت قد سمعت بهذا الاسم، لكن.. من أين لي حفظ وجوه الأسماء لأستعيدها متى شئت، أصبحت الذاكرة كالعجين تتحمّس الأحداث في فرن الزمان والأيام، لا أبرئ أن أتذكّر ما فعلت قبل يومين لأستذكر صاحب الاسم، لفظ اسمه من طرازٍ لا يُنسى، استبعدته من حظيرة الاحتمالات ولا أعلم لماذا؟ لربما اختفائه المفاجئ دون إنذار جعله يتضاءل في منفى الذاكرة كاحتضار شمعة، وجدت مبرراً لعجبي حينما علمت من كان..
نعم.. إنه الخليجي المترف، صاحب تمثال إمحوتب البرونزي، الحكيم صاحب الوجه السمح، يوم قابلته انتابني في نفس اللحظة التي تشابكت أيادينا أني سأحيى مع هذا الرجل أياماً لن تمحى من ذاكرة الزمان..
رمى عزت باسمه الأول قبل أن يُغلق فتحة النافذة ويحكمها متحاشياً ريح الأربعينية، كأن الرياح هبّت وتعجّبت مثلي عندما ذكر اسمه، بقيت مزروعاً على الرصيف أراقب اختفاء سيارته بين الزحام والشوارع، الاسم واقفاً مثلي على تخوم الذاكرة يحتاج فقط أن يُرتطم به شيء ليقع وأنقض عليه، كما ارتطمت بابنه ولم يقع سواي بمستنقع الانفراط ليربض الجسد ويضطرب في ساحة الشتات..