الجزء الثاني
الخامس: العلم الشرعي والعناية به وإحياؤه :
لقد مرت على مراكز العلم وحِلقه ودروسه حالة من الجفاف، حالة من الفقر، كادت الأمة فيها أن تنسى العلم الشرعي، فما لبث هؤلاء الشباب وما لبث هذا الجيل المبارك أن يقبل ويتوافد على حلق العلم وأن يحييها .
إذا أردت مصداق ذلك فاذهب يمنة ويسرة وتأمل في حلق العلم، من هم روادها ؟ من هم الذين يثنون ركبهم في حلق العلم، في وقتٍ يتوافد أترابهم وأقرانهم على أماكن اللهو والمتعة واللعب، في وقت يدعوهم فيه الناس إلى الشهوات، إلى أن يَسعدوا باللهو واللعب؟ ومع ذلك يضحّي هؤلاء فيتركون لذة الفراش والنوم، ويتركون لذة اللهو واللعب، ويثنون ركبهم أمام المشايخ، وأمام حلق العلم، يتعلمون العلم.
وهانحن نرى بحمد الله الدراسات الشرعية والكليات الشرعية، تشهد إقبالاً واسعاً منقطع النظير من هذا الجيل بعد أن مرت بالأمة مرحلة يستحي الطالب فيها أن يقول أنه يدرس في كلية شرعية، وكان المسلمون يرون أنه من العيب والنقص في الشاب أن يدع سائر التخصصات ويقبل على العلم الشرعي.
إن رواج حلق العلم والإقبال على التخصصات الشرعية، ورواج الكتاب الإسلامي وانتشاره - بل كون الكتاب الإسلامي هو أكثر الكتب رواجاً وانتشاراً في العالم العربي كله - إن هذا دليل على إقبال الناشئة على العلم الشرعي، وهو بلا شك أمارة وعلامة على أن الأمة سائرة نحو المنهج الحق، وعلى أن هذه الدعوة المباركة سائرة على المنهج الصحيح وفي الطريق إليه، لأن الناس حين يقبلون على علم الكتاب والسنة فإن هذا بإذن الله عنوان عصمتهم من الأهواء والفتن والصوارف والضلال .
السادس : الدعوة إلى الله تبارك وتعالى وحمل هم الإصلاح:
إن هذا الجيل وهذا النشء المبارك قد أخذ هذه الدعوة على عاتقه، هانحن نراه يصعد المنبر يخطب الناس أو يقف أمامهم واعظا أو داعيا بأي وسيلة من الوسائل، هانحن نراه يحيي الدعوة بمدرسته، في جامعته، في حيه، بل هانحن نرى هؤلاء هم أبرز الناس وأكثرهم حملاً للدعوة
لقد أصبح همّ الإصلاح وهمّ التغيير في مجتمعات المسلمين يسيطر عليهم بل يُشغلهم عن سائر الهموم التي يهتم بها أقرانهم، ولا عجب ولا غروَ فقد كان للشباب من فرط هذه الأمة ورعيلها الأول: أصحاب النبي r من ذلك نصيب وافر، إن خمسة من العشرة المبشرين بالجنة كان أعمارهم حين دخلوا الإسلام دون الخامسة والعشرين، وطائفة من السابقين الأولين إلى الإسلام أمثال علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وخباب بن الأرت والأرقم وغيرهم وغيرهم كانوا لم يصلوا العشرين من أعمارهم ومع ذلك كانت لهم أدوار مثلى، وكان لهم القَدَحُ المعلى في الدعوة لهذا الدين والجهاد في سبيله والقيام بنصرته، ولهذا لا غَروَ أن نجد هذا الجيل وهذا النشء المبارك يحيي سنة أسلافه، ومن تشبه بقوم فهو منهم، ومن سار على طريق أولئك فهذا بإذن الله حريٌّ وجدير به أن يحشره الله تعالى معهم ، فالمرء يحشر يوم القيامة مع من أحب .
السابع :مساهمة كثير منهم في إصلاح بيوتهم:
كثيرة هي البيوت التي صلحت بدعوة شاب ربما لم يبلغ الحلم، أو لم يجاوز العشرين من عمره، وكثير من الآباء والأمهات الذين أصلحهم الله تبارك وتعالى واستقاموا وصلحت بيوتهم؛ فزالت منها المنكرات، واستقامت على طاعة الله تبارك وتعالى بسبب جهد شاب صالح أو فتاة صالحة من هذا النشء وهذا الجيل المبارك.
وطائفة ممن لم يستطيعوا إصلاح بيوتهم والتأثير عليها، قد بذلوا الجهد في ذلك؛ فهم كثيراً مايتساءلون عن وسائل إصلاح بيوتهم، ويحدثونك بأن بذلوا هذه الوسيلة وتلك، وعملوا هذا الأمر، لكنهم لم يوفَّقوا ولم يستطيعوا، والنتائج بيد الله عز وجل.
الثامن : النفع للناس في أمور دنياهم :
إن هذا الجيل المبارك من الشباب والفتيات الصالحين قد أخذ على عاتقه حمل قضية الدعوة والإصلاح، وقد شَعَر أن قضية الناس الكبرى والأساس هي القضية التي خُلقوا من أجلها، لعبادة الله تبارك وتعالى }وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون {، وشَعَر أن أعظم خير ونفع يقدمه للناس هو أن يدعوهم إلى عبادة الله تبارك وتعالى وطاعته؛ فأخذ على عاتقه هذا الهم، ومع ذلك لم يكن ذلك مشغلاً له عن أن يقوم بالواجب الآخر : أن ينفع الناس في أمور دنياهم، وهو أمر ظاهر بحمد الله، مَن هم الذين يتصدرون للإحسان إلى المحتاجين والفقراء؟ مَن هم الذين يقومون ويسهرون على المبَرّات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية؟ ويجهدون في نفع المسلمين في أمور دنياهم، في مسح دمعة يتيم، أو إطعام جائع في مسغبة، أو التخفيف عن مُصَاب في مصيبة؟
وقد أدرك أعداء الإسلام هذا الجانب، وشعروا أن هذه القضية قد تُكْسِب هؤلاء بعداً عند الناس؛ ولهذا سعوا في حجب هذه الأدوار عن هؤلاء، لكن حالهم حال أولئك الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يُتِمَ نوره .
وهانحن نرى –والحمد لله- هؤلاء الصالحين في كل مكان في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، حين تلم بالمسلمين كارثة أو تصيبهم مصيبة، هانحن نراهم يبادرون لنجدة إخوانهم ونصرتهم ولمسح الدمعة عنهم ولا غَروَ فقد ورثوا هذا الهدي من نبيهم r فقد كان r يحمل الكَلَّ ويعين على نوائب الدهر، وكان r هو القدوة في الإحسان إلى الناس في أمور دينهم وأمور دنياهم .
التاسع : التفوق في سائر مجالات الحياة المختلفة :
مع ما شُغل به هؤلاء، من الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ومن حفظ كتاب الله، وتعّلم العلم الشرعي، ومن نصرة قضايا المسلمين والاشتغال بها؛ مع ذلك كله هاهم يثبتون للناس أنهم هم المتفوقون في مجالات الحياة، ولا شك أن الاطلاع على نتائج الامتحانات في جامعة من الجامعات في بلاد المسلمين أو مدرسة من المدارس للشباب أو للفتيات؛ تعطينا دليلاً على أن هؤلاء المتدينين والصالحين هم الذين يتصدرون القائمة، وأن أغلب الذين يحققون التفوق هم والحمد لله من هؤلاء .
لقد سعى أعداء هذه الدعوة إلى أن يصوروا للأمة أن هذا التدين وهذه الاستقامة إنما هو إفراز لمشكلات نفسية، أو مشكلات اجتماعية واقتصادية، أنه إفراز لتخلف يعاني منه هؤلاء. لكن حين يرى المسلمون بأعينهم أن هؤلاء -كما أنهم قد تفوقوا في العلم وفي حفظ كتاب الله- فقد تفوقوا في سائر التخصصات في الكليات التي تُعْنَى بالدراسات التطبيقية، وفي إحدى كليات الطب كان في سنة من السنوات :الخمسة الأوائل من الطلاب من الشباب المتدينين الصالحين.
وفي إحدى الدول العربية -والتي كانت أول بلاد سُعي فيها إلى تحرير المرأة ورفع الحجاب –كانت ثمانية من الطالبات العشر الأول في نتيجة الثانوية العامة على مستوى الدولة من الفتيات المحجبات، في بلد هي أول من نزع الحجاب ومع ذلك تأتي تلك الفتيات ليقلنَ للعالم أجمع أن قضية الحجاب وقضية التدين ليست كما يطرحه أولئك: (إفراز لعقد نفسية، أو مشكلات اجتماعية)، وليثبتن أن هؤلاء المتدينين هم أقدر الناس على النجاح والتفوق؛ لأنهم يدركون أن قضية الحياة قضية جادة، فهم أينما ساروا وأينما ذهبوا هم المتفوقون.
العاشر: أن اهتماماتهم تجاوزت اهتمامات الناس الفارغة :
ما هي القضايا التي تسيطر على همّ المسلمين صغاراً وكباراً، شيباً وشباناً؟ إنها قضية الدينار والدرهم، إنها قضية الشهوة، قضية العبث، قضية اللهو الفارغ، هي القضية التي سيطرت على حياة المسلمين، أما هذا الجيل المبارك وهذا النشء المبارك فهو يحمل همّاً آخر، يحمل قضية أخرى .
إن القضية التي تقلقه وتشغل باله هي: كيف يستقيم على طاعة الله؟ كيف يحفظ كتاب الله؟ كيف يحصّل العلم الشرعي؟ كيف ينفع المسلمين؟ كيف يدعو إلى الله تبارك وتعالى؟
وهو إنجاز من أعظم الإنجازات، حينما يتجاوزون ما يهتم به سائر المسلمين والمسلمات ولسان حال أحدهم يقول: ( يا قوم أنتم في واد وأنا في واد، يا قوم لكم همّ ولي همّ آخر، لكم شأن ولي شأن آخر ) . وهذا جدير بهم أن يكونوا ممن يقولون يوم القيامة لله تبارك وتعالى حين يُسألوا : قد مضى الناس ولم تمضوا، يقولون : يارب فارقنا الناس ونحن أحوج ما نكون إليهم، نعم لقد فارقناهم بالدنيا ونحن أحوج ما نكون إليهم، وهانحن نفارقهم يوم القيامة أحوج ما يكون الناس إلى ذلك، فنحن ننتظر ربنا تبارك وتعالى كما ورد ذلك عن النبي r في حديث الشفاعة الطويل .
إنهم يغتنمون الفرص لكل مافيه نصر للدين ودعوة إليه؛ فهم يتساءلون في كل مناسبة: في مقتبل الإجازة، في الحج، في رمضان، في كل مناسبة، يتساءلون كيف نستثمر هذا الموقف في الدعوة إلى الله عز وجل ؟ كيف نستغل هذا الوقت وهذا الموسم وهذه الفرصة في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ؟
في حين كانت القضية التي تُشغل غيرهم في الإجازة هي قضية السفر واللهو واللعب، وفي حين أن القضية التي كانت تشغل بعض المسلمين في شهر رمضان هي كيف يمتعوا أنفسهم بأطيب الطعام والشراب ؟ كيف يرتبون أوقاتهم في اللهو واللعب؟
ولهم أسوة بنبيهم r الذي كان لا يدع قضية من القضايا وباباً من الأبواب وميداناً من الميادين إلا ونشر فيه علماً، ودعا فيه إلى الله تبارك وتعالى، أليس r يأتي في موقف ربما لا يزيد أثره في الناس أن يستثير بعض عواطف الأمومة والأبوة نحوهم فيرى r امرأة تأخذ طفلاً من السبي فتضمه إلى صدرها فيستوقف أصحابه r ويقول :"أترون هذه طارحة ولدها في النار ؟" فيقولون : لا، فيقول:"لله أرحم بهذه من ولدها" أو يقول:"والله لا يلقي حبيبه في النار" .
لقد كانت قضية الدعوة وقضية التعليم قضية تشغل النبي r، وكان يستثمر كل هذه الفرص، ولهذا أخذ هذا النشء وهذا الجيل المبارك هذا الهدي المبارك منه r فصار سؤاله في كل وقت : كيف يستثمر هذا الوقت في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى؟
الحادي عشر : أنه أحيا سنة الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى :
إن تجربة الجهد الأفغاني تجربة قريبة وتجربة لم ولن تنساها الأمة، في وقت كادت الأمة أن تنسى الجهاد وتنسى هذه الفريضة، بل للأسف كان بعض من يتصدر للتعليم وتدريس الناس الفقه يقفز باب الجهاد حين يصل إليه لأن الأمة قد نسيته ، وحين قام هذا الجهاد في تلك البلاد وفتح الميدان رأينا الشباب ممن لم يتجاوزوا العشرين أو تجاوزها بقليل، رأيناه يترك الدنيا ويترك الدينار والدرهم، ويترك كل ما يسير إليه الناس من متعهم، ويرحل إلى هناك إلى بلاد لا يعرف لغتهم، إلى بلاد لا يعرف طريقتهم، ولا يعرف حياتهم، ولسان حاله يقول وقد قال عبد الله بن رواحة t حين ودع أصحابه وقالوا له حفظكم وردكم إلينا، قال : لا ردنا الله إليكم ، وقال:
وضربة ذات فرغ تقذف الزبداتغوص من الأحشاء تقذف الكبدَايا أرشد الله من غاز وقد رشدا لكنني أسأل الرحمن مغفرة أو طَعنةٍ بِيَدَي حرّانَ مُجْهزةٍحتى يقال إذا مروا علىجدثي
وكان يسأل الشهادة ويقول وهو يخاطب راحلته :
مسيرة أربع بعد الحساءولا أرجع إلى أهلي ورائيبأرض الشام منجدل الثواءولا نخل أسافلها رِواءِ إذا أديتِني وحملت رحليفشأنك أنعم وخلاك برءوجاء المسلمون وخلفونيهنالك لا أبالي طلع بعل
ولسان حاله يقول كما قال الأول:
على شرجع يعلى بخضر المطارفيمَسُّون في فج من الأرض خائف أذا العرش إن حانت وفاتي فلا تكنولكن أحِن يومي سعيداً بصحبة
لئن قالها صاحب بدعة وصاحب ضلالة، فهو يقولها وهو على السنة وهو يتمنى أن يرزقه الله الشهادة تحت لوائها.
وبعد أن نسيت الأمة صور الشهادة، ونسيت صور الجهاد، رأينا نماذج من هؤلاء، ممن قتلوا في سبيل الله -نحسبهم والله حسيبهم- من الشهداء في سبيل الله، فأحيوا فريضة الجهاد، وضربوا للأمة أروع الأمثلة في التضحية والبطولة والفداء، في وقتٍ كان يسافر أترابهم وأقرانهم لقضاء الرذيلة، ولقضاء الشهوات المحرمة، وفي وقتٍ كان يسافر فيه الكبار والصغار للنزهة، كان هؤلاء الشباب يسافرون لأن يتيسر لهم في تلك البلاد ما لا يتيسر لهم في بلادهم، أما هؤلاء فلهم شأن آخر وقضية أخرى وحياة أخرى.
وأولئك الذين لم تكتحل أعينهم برؤية ميدان الجهاد، ولم تتشنف أسماعهم بسماع صوت الجهاد، كما كان أحدهم يتغنى:
كأزيزِ رشاشي وصولة مدفعي لا شيء يشجيني ويطرب مسمعي
إنهم وإن لم تكتحل أعينهم برؤية تلك المشاهد، ولم تتشنف أسماعهم بسماع ذاك الصوت، ولم يحصل لهم شرف المشاركة في تلك الميادين؛ فإنما عاقهم عائق وحبسهم حابس عن هذه الميادين، وأحدهم يتمنى أن تتاح له الفرصة، وأن يفتح له الميدان .
إنها صورة تستحق الإشادة، وتستحق أن نحْفِل بها، وأن نشعر أنها من منجزات جيلنا المبارك، وكما قال r:"من خير معاش الناس لهم في دينهم ودنياهم رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما سمع هيعة طار يبتغي القتل والموت من مظانه" .
الثالث عشر : أنهم قد أحيوا سنة الأخُّوة في الله :
لقد كادت الأمة أن تنسى الحب في الله والأخُّوة في الله، فجاء هذا النشء المبارك ليحيي معاني هذه الأخُّوة وليتأسى بنبيه r والجيل المبارك الذين تآخوا على غير أرحام بينهم .
ولعل هؤلاء من أسعد الناس بقوله r: "رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه" مما حدا بأحد شعراء هذه الصحوة أن يستبشر حين رأى هذا الأمل:
نوراً بآفاق السماء يتلالايحيي النفوس ويبعث الآمالافتروح ترسل روحها إرسالا الله أكبر إن عيني قد رأتفلعله فجر الأخُّوة قد بدا ويميط عن هذه القلوب هوانها
الرابع عشر : موقف هؤلاء من المعاصي :
إن هؤلاء -شأنهم شأن سائر المسلمين- قد يقعون في المعصية وقد يواقعون الذنب، ومن هو الذي لا يقع في الذنب والمعصية؟"لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولأتى بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم"و"كل ابن آدم خطّاء وخير الخطّاءين التوابون"كما قال r.
إن هؤلاء -وإن وقع أحدهم في المعصية - فحالهم مع المعصية ليست كحال سائر المسلمين، إن أحدهم ما يلبث أن يبادر إلى التوبة إلى الله والإقلاع، ولعله بهذا من أسعد الناس بقوله تبارك وتعالى :} إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَىِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ {، وبقوله تبارك وتعالى }: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَـوَاتُ وَالاَْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين{ ، ثم ذكر تبارك وتعالى في صفة هؤلاء أنهم}إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله{، في حين يصرُّ غيرهم على هذه المعاصي .
وهم لو وقعوا في المعصية فإن أحدهم يستعظم المعصية وتعظم عنده، كما قال ابن مسعود t: "إن المؤمن يرى ذنبه كالجبل يوشك أن يقع عليه، وإن المنافق يرى ذنبه كذباب طار على أنفه فقال به هكذا".
كم يستهين كثير من المسلمين بالنظر الحرام بل يستنكر حين يُنكر عليه هذا الأمر كم يستهينون بالكبائر والفواحش؟ أما هذا الجيل فإنك تراه حين تقع منه معصية أو نظرة محرمة فإنه يستعظمها ويقبل على الله عز وجل مستغفراً تائباً ويشعر أن هذه القضية تكاد وتوشك أن توبقه .
وهم أيضاً لو وقعوا في المعصية فإنهم إنما يقعون وقوعاً عارضاً، فلا يسعون إلى المعصية، ولا يبحثون عنها، لكن قد يواقع أحدهم المعصية وقد غلبته شهوة وقد غلبه هوى، ولعله أسعد الناس بما قاله ابن القيم رحمه الله كما في مدارج السالكين : "والله تعالى إنما يغفر للعبد إذا كان وقوع الذنب منه على وجه غلبة الشهوة وقوة الطبيعة، فيواقع الذنب مع كراهته له من غير إصرار في نفسه، فهذا ترجى له مغفرة الله وصفحه وعفوه، لعلمه تعالى بضعفه وغلبة شهوته له وأنه يرى كل وقت مالا صبر له عليه. فهو إذا واقع الذنب واقعه مواقعة ذليل خاضع لربه، خائف، مختلج في صدره شهوة النفس الذنب وكراهة الإيمان له، فهو يجيب داعي النفس تارة، وداعي الإيمان تارات. فأما من بنى أمره على أن لا يقف عن ذنب ولا يقدم خوفاً ولا يدع لله شهوة، وهو فرح مسرور يضحك ظهراً لبطن إذا ظفر بالذنب، فهذا الذي يخاف عليه أن يحال بينه وبين التوبة ولا يوفق لها" .
وهم أيضاً لو وقعوا في المعصية لا يجاهرون بها ويستحي أن يراه أحد عليها، ولا شك أن هذا بإذن الله دليل خير فكما قال r: " كل أمتي معافى إلا المجاهرين" ولعله أن ينطبق عليه قوله r في حديث النجوى:" يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول عملت كذا وكذا؟ فيقول:نعم، ويقول عملت كذا وكذا؟ فيقول:نعم. فيقرره ، ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا، فأنا أغفرها لك اليوم".
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن نشأ في طاعة الله تبارك وتعالى، وأسأله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، وأن يجعلنا وإياكم ممن يقبض على دينه فيكون كالقابض على الجمر ، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .