المحتويات
المحتويات 1
النبي r وهذا الخلق: 2
وصف الله لنبيه r بالرحمة: 3
رحمته r بأمته: 3
رحمته r بالأطفال: 4
رحمته r بالبهائم والدواب: 4
رحمته r تتجاوز حدود عصره: 5
أمره r بالرحمة وحثه عليها: 5
أهل السنة على منهاجه r: 6
مجالات الرحمة وصورها لدى أهل السنة: 7
كيف نتعامل مع المخالف؟ 10
الرحمة للخلق لاتكون على حساب المنهج: 11
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً r عبده ورسوله، أما بعد :
في وسط هذا العالم الذي يموج بالبعد عن الله سبحانه وتعالى وعن شرعه، العالم الذي يموج بالبدعة والإعراض عن الله سبحانه وتعالى، تتعالى صيحات الإنقاذ ودعوات النهوض بهذه الأمة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولن يقوم بهذا الدين إلا تلك الطائفة التي أخبر النبي r أنه لها الناجية، حيث هلكت سائر الفرق والطوائف، وكتب الله النصرة لهذه الطائفة "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم". لذا كان لزاماً علينا الحديث والمناداة بإحياء منهج خير القرون: منهج أهل السنة والجماعة وسلف الأمة.
ولا شك أن منهج أهل السنة ومنهج خير القرون منهج أوسع دلالة وأعمق دائرة من أن يكون مجرد مقررات معرفية دون أن يكون لها رصيد من العمل والسلوك، إنه منهج أشمل من ذلك بكثير، فهو ليس المنهج الذي لا يعرف إلا جانباً واحداً من جوانب التوحيد لله سبحانه وتعالى، أو لا يتحدث إلا في إطار المعرفة والجدل النظري والإثبات النظري والنفي وحده فقط، بل هو أشمل من ذلك كله.
ومن الجوانب المهمة عند أهل السنة الجانب الخلقي والسلوكي وما فتىء من صنف في معتقدهم مختصراً أو مفصلاً أن يشير إلى هذا البعد، البعد الأخلاقي والسلوكي في عقيدة أهل السنة، ويصفهم بما هم أهل له من جوانب في الرقائق والسلوك أو الأخلاق أو المعتقد، ومن ذلك أن أهل السنة كما وُصفوا أرحم الخلق بالخلق، هذه محاولة متواضعة للحديث حول هذا الجانب.
النبي r وهذا الخلق:
إن العَلَم الأول والقائد الأوحد لأهل السنة هو محمد r ،ومن ثم فإن أولئك الذين يرغبون سلوك هذا المنهج ويدعون إليه لابد أن يكون لهم نسب وثيق بالنبي r من المحبة والتوقير له وإنزاله المنزلة التي أنزله الله إياها.
ومن الاتباع له r البحث عن هديه وعن سنته وسلوكه r لتقتفى آثارها، ولا يسوغ أبداً أن يطغى اهتمامنا بعَلَم من أعلام أهل السنة - على جلالته وقدره- على اهتمامنا واعتنائنا بالنبي r، ولا أن تحتكم إلى قول إمام أكثر مما تحتكم إلى قوله r وهديه.
وجدير بنا بكل حال أن نعود إلى هديه r بقراءة دقيقة متأنية فاحصة؛ لنلتمس من هديه r وسنته معالم طريق النجاة الذي أخبر r أنه لن ينجو إلا من كان على ما كان عليه r وأصحابه.
وصف الله لنبيه r بالرحمة:
من الصفات التي اتصف بها نبينا محمد r هذه الصفة وهي صفة (الرحمة) وهو r بها أهل، فلقد وصفه الله سبحانه وتعالى بذلك؛ فوصفه بالرحمة على الخلق والعطف عليهم ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فضاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ) ويمتن الله سبحانه على المسلمين أن بعث لهم هذا الرسول صاحب القلب الكبير الرحيم r (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ). و أخبر سبحانه وتعالى أن رسالته r رحمة للعالمين أجمع (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). r
رحمته r بأمته:
وتلمس رحمته r بالخلق في كل أحواله وأموره، فهو r كثيراً ما يترك بعض الأعمال شفقاً على أمته حتى لا تفرض هذه الأعمال عليهم فيعجزوا عن القيام بها وعن الوفاء بها، ألم تقرؤوا كثيراً في سنته r قوله :"لولا أن أشق على أمتي"؟ إن هذا مصداق هذا الوصف الذي وصفه به ربه سبحانه وتعالى، وهو عز وجل أعلم به، فهو r يقول :"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " و "لولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله عز وجل" ويصلي r فيصلي الناس بصلاة ثم يعتذر لهم r ولا يخرج لهم خشية أن تفرض هذه الصلاة على أمته فلا يطيقوها، ويفرض الله عليه خمسين صلاة فما يزال حتى تخفف هذه الصلاة إلى خمس رحمة بأمته، ويأمره جبريل أن يقرئ أمته على حرف فيقول : إن أمتي لا تطيق ذلك، فيقول : أقرئهم على حرفين حتى أوصله على سبعة أحرف.
وما يزال r في تلقيه للوحي وفي كلامه وفي أفعاله وعبادته يخشى أن يشق على أمته، ويخشى أن تكلف ما لا طاقة لها به، وأن تؤمر بما لا تطيق، ولهذا كان كما وصفه سبحانه وتعالى
ونيسرك لليسرى ) لقد يسر r لليسر في كل أموره وحياته.
والشواهد على رحمته r لاتقف عند هذا الحد؛ فنعيش مع جانب آخر من سيرته r ، سيرته مع أزواجه: ففي حجة الوداع أصاب عائشة رضي الله عنها الحيض مما منعها أن تعتمر كما اعتمر الناس، فتقول للنبي r : يذهب الناس بحج وعمرة وأذهب بعمرة؟ فيقول الراوي : وكان r هيناً ليناً إذا هوت أمراً تابعها عليه. ومن تأمل سيرته وهديه r في تعامله مع زوجاته يلمس ذلك واضحاً من رحمته r وشفقته بهن.
رحمته r بالأطفال:
جاء أعرابي -كما تروي عائشة رضي الله عنها- إلى النبي r فرأى أمراً لم يعهده رآه r يقبل الصبيان فقال : تقبلون الصبيان؟ قال r : نعم، قال الأعرابي: إنا لا نقبلهم فقال r: "أوأملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟". إذاً فهذا الأعرابي الذي ما اعتاد أن يقبل الصبيان وأن يداعبهم، جاء إلى النبي r ذاك الرجل الذي يهابه الناس ويتحدثون عنه، ويغذ الناس سيرهم إليه r لتكتحل أعينهم برؤيته، وحُق لهم كذلك فمن رآه r وآمن به فقد ثبت له فضل لا يثبت لأحد من البشر، ثبت له فضل الصحبة؛ فيستغرب هذا الأعرابي أن يرى مثل هذا الرجل العظيم في مكانته ومنزلته يتعامل مع الصبيان هذه المعاملة.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه r قبل الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس رضي الله عنه فاستنكر هذا السلوك ولم يألفه، قال : إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم، فنظر إليه النبي r وقال : "من لا يَرحم لا يُرحم" .
ويصلي r بأصحابه كما روى ذلك عبد الله بن شداد رضي الله عنه -وهو عند الإمام النسائي- فيسجد فيأتي الحسن أو الحسين فيرقى على ظهره r ؛ فيطيل السجود حتى ظنوا أنه نسي r ، فلما فرغ من صلاته قال :"إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أقوم قبل أن يقضي حاجته".
إن هذا القلب الرحيم العظيم ليأبى أن يزعج هذا الطفل الصغير ويقلقه؛ فيطيل r سجوده والناس وراءه ينتظر أن يقضي هذا الصبي حاجته فيقوم من نفسه.
ويسمع r بكاء الصبي وهو يصلي وقد نوى أن يطيل الصلاة فيوجز فيها r حتى لا تفتن أمه.
رحمته r بالبهائم والدواب:
وتتجاوز رحمته r ذلك كله إلى الحيوان والبهيمة؛ فيروي عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما أن النبي r دخل حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل فلما رأى النبي r حنّ وذرفت عيناه فأتاه r فمسح ظفراه فسكت، فقال r :"من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟" فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال له : "أفلا تتق الله في هذه البهيمة ملكك الله إياها؟ فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه" . رواه أبو داود.
الله أكبر لهذا القلب الرحيم العظيم r ، مع ما يحمل r من عبء الرسالة لا لأصحابه بل للبشرية أجمع، للثقلين الإنس والجن ومع ما يحمله r من هم وجهد يجد هذا الحيوان البهيم مكاناً رحباً واسعاً في قلب هذا الرجل العظيم r ؛ فيأتي إلى النبي r وقد عرف عنه الرحمة؛ فيشتكي إليه، فيجيب الشكوى r ، ويسأل عنه صاحبه ليخبره بشكوى هذه البهيمة.
ويروي الإمام أبو داود في سننه من حديث سهل بن الحنضلية رضي الله عنه أنه r مر ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة وفي صحيح الإمام مسلم أن عائشة رضي الله عنها ركبت بعيرا وكانت فيه صعوبة فجعلت تردده فقال لها رسول الله r عليك بالرفق وكان r في سفر كما روى ذلك أبو داود عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه قال كنا مع النبي r في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تعرش فلما جاء رسول الله r قال : من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها" .
والحديث معشر الأخوة الكرام ليس حديثا عن رحمته r بالبهائم المعجمة والدواب والحيوان إنما هي إشارة إلى أن ذلك القلب العظيم الرحيم الذي وسعت رحمته هذه الدواب لابد أن يكون أرحم وأرفق بأولئك الذين خلقهم الله سبحانه وتعالى، وخلق كل ما في هذه الأرض لهم (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا).
أفلا يتقي الله أولئك الذين حملهم الله أمانة المسلمين وأمانة الجيل فلئن كان من يتولى هذه البهيمية عرضة للمسألة والإنكار من محمد r ، فكيف بأولئك الذين دعا عليهم r ؟
رحمته r تتجاوز حدود عصره:
تتجاوز رحمة النبي r ورأفته بأمته عليه أفضل الصلاة وأتم والسلام ذلك العصر الذي عاشه r ، وذاك الجيل الذي عاشره ليضع r هذه الضمانة لمن بعده فيدعو ربه تبارك وتعالى "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليه فاشقق عليه" فيضع r هذا نبراساً وهدياً لكل من يتحمل أمانة ومسؤولية في أمة محمد r أجمع إلى أن تقوم الساعة، ويدعو ربه تبارك وتعالى وتقدس أن يرفق بمن يرفق بأمته، وأن يرحم من يرحم أمته، وأن يشق على من يشق عليها.
أمره r بالرحمة وحثه عليها:
هذه معشر الأخوة الكرام بعض المعالم من هدي أرحم البشر عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وهو مع ذلك r ، لم يحلنا على هذا الهدي –وإن كان وحده كافياً- بل أمرنا r بالرحمة وحثنا عليه، وأعلى لنا شأنها؛ فأخبر r أن الراحمين هم أولى الناس برحمة الله ففي الترمذي وأبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه r قال: " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله".
والراحمون يستحقون مغفرة الله سبحانه وتعالى، والمغفرة أخص من الرحمة، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أن رجلاً كان يمشي في الطريق فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب، فلما خرج رأى كلباً يتلوى من العطش؛ فنزل البئر وسقاه، فلما سقاه غفر الله عز وجل له. وفي رواية أنها بغي من بغايا بني إسرائيل.
أرأيتم أولئك الذين رحمهم الله وغفر لهم وقد رحموا دابة من الدواب؟ فما بالكم بمن يرحم عباد الله سبحانه وتعالى الصالحين الأتقياء؟
وكما أعلى النبي r منزلة الراحمين وأخبر أنهم أولى الناس برحمة الله عز وجل ومغفرته ، توعد r أولئك الذين لا يرحمون؛ فأخبر r أنهم أبعد الناس عن رحمة الله سبحانه وتعالى كما في حديث جرير بن عبد الله في الصحيحين أنه r قال:" لا يرحم الله من لا يرحم الناس". ومضى معنا في حديث الأقرع بن حابس أنه r قال :"من لا يرحم لا يُرحم".
وأخبر r أن أولئك الذين لا يرحمون أشقياء قد كتبت عليهم الشقاوة؛ ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داو ود أنه قال سمعت أبا القاسم r يقول:"لا تنزع الرحمة إلا من شقي".
إذا فالراحمون يرحمهم الله سبحانه وتعالى ويغفر لهم، وألئك الذين نزعت الرحمة من قلوبهم أشقياء قد عوقبوا بنزع هذه الرحمة، وهم أبعد الناس عن رحمة الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل لا يرحم من لا يرحم عباده؛ فالجزاء من جنس العمل.
هذه وقفة سريعة مع إمام أهل السنة وقائدهم وفرطهم على الحوض r هذه وقفة مع هديه العملي r وهديه القولي وكيف أنه r كان أرحم الناس :
وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان هما في الدنيا هما الرحماء