أهل السنة على منهاجه r:
ولما كانت هذه صفة النبي r ، كان أهل السنة هم أهل الرحمة بالخلق، فكانوا خير الناس للناس، يعرفون الحق ويرحمون الخلق، كما نص على ذلك جمع من صنف في معتقدهم.
وأذكر بما قلته أول حديثي من أن منهج أهل السنة لا يقف عند مجرد المقررات المعرفية وحدها، ولا عند باب من أبواب العلم والاعتقاد، بل هو منهج وسلوك يطبع حياة المسلم كلها في اعتقاده في ذات الله سبحانه وتعالى وفي أسمائه وصفاته وفيما يجب له سبحانه وتعالى وما يستحقه من العبادة والتأله والخضوع والاحتكام إلى شرعه تعالى وتقدس، وفي التلقي من الوحيين دون غير هما، وفي تعظيم أمر الله سبحانه وتعالى وشرعه، وفي عبادته تبارك وتعالى والاجتهاد في ذلك، وفي باب الخلق والسلوك والتعامل مع الناس.
ولهذا كان أهل السنة كما قلنا ينصون على هذا الجانب ويؤكدون به فيما قالوه، هذا هو الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله يقول عن أهل السنة: ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه.." أهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة، ويطيعون الله ورسوله؛ فيتبعون الحق ويرحمون الخلق".
ويقول أيضا في موضع آخر:"وأهل السنة فيهم العلم والعدل والرحمة؛ فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم، كما قال تعالى
كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنأن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى )، ويرحمون الخلق، ويريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم، كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق".
والنقول عن سلف الأمة تطول في ذلك، وانظر في أي كتاب صنفه إمام من أئمة أهل السنة من المتقدمين أوالمتأخرين لتراه ينص على أن أهل السنة والسلف يرحمون الخلق، وأنهم يأمرون بإطعام الطعام وإفشاء السلام، ويتحدث عن الجوانب الأخلاقية والسلوكية.
فجدير بنا أن لا نهمل هذا الجانب؛ فالذي يتصدر دعوة الناس ويعلن لهم أنه يسير وفق ما كان عليه النبي r وأصحابه، وأنه من الطائفة الناجية المنصورة، وأنه يحمل الحق الواضح للناس ينبغي أن يكون سلوكه وهديه وسمته خير دليل للناس على صدق مقالته، وعلى صدق ما يدعوهم إليه؛ فيتمثل هذا السلوك وهذا الجانب في حياته كلها وفي سلوكه.
مجالات الرحمة وصورها لدى أهل السنة:
تتمثل مجالات وصور الرحمة بالخلق عند أهل السنة في جوانب كثيرة منها :
الأول: الرحمة بالفقراء والمساكين وأهل الحاجة وقضاء حوائج الناس، ولهم في ذلك أسوة في نبيهم r الذي كان r يعطف على الأرملة والمسكين، وكان r قبل النبوة والرسالة يطعم الطعام، وكان يحمل الكل r ، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الحق، كما وصفته بذلك من هي من أعلم الناس به زوجه خديجة رضي الله عنها، فكيف يكون الأمر بعد النبوة وبعد الرسالة؟
إذا ينبغي أن يشعر أهل الحاجات ومن ضاقت بهم السبل أن أهل السنة والدعاة إلى الله عز وجل و إلى منهج أهل السنة هم أقرب الناس إليه؛ فيمسحون دمعة المسكين، ويسدون خلة المحتاج ويحسنون إلى من يحتاج أن يحسن إليه.
الثاني: الحرص على هداية الناس وإصلاحهم، وهذا من أعظم مجالات الرحمة وأجلها، فإن كان أحدهم يسعى إلى أن ينقذ فقيراً من جوع ومسغبة، أو ينقذ يتيماً من بؤس اليتم، فإنه أولى أن ينقذه من نار وقودها الناس والحجارة، وأولى أن ينقذه من نار ومن عذاب تنسيه غمسة واحدة فيه كل نعيم الدنيا، وأن يدله على جنة عرضها السماوات والأرض، جنة ينسى حين يدخلها ويغمس فيها غمسة واحدة كل شقاء الدنيا وبؤسها.
ولهذا يخبر الله عز وجل عنه أنه أرسل النبي r رحمة للعالمين، وأعظم رحمة للناس أن أنقذهم الله به r من الضلال ومن الشرك والكفر به سبحانه وتعالى، وأنقذهم من نار تلظى وقودها الناس والحجارة حمانا الله وإياكم منها ووالدينا وجميع المسلمين، لهذا كان r هو الرحمة المهداة، وكانت حاله r كما قال عن نفسه: " وأنا آخذ بحجزكم عن النار ".
ويشبه r نفسه برجل أوقد ناراً فجعل الفراش يتهافت فيها، وهو يذبها عنها، ويأخذ بحجز أمته عن النار.
الثالث: الرفق بهم في من ولاه الله مسؤولية أوأمرا من أمور المسلمين، وقد دعا r فقال:"اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه " فكل من ولاه الله أمانة أومسؤولية، من أب أو زوج أو أستاذ أو مدير أو مسؤول صغيراً أو كبيراً، فينبغي له أن يرفق بالمسلمين ويرحمهم.
ومن رفق الراعي برعيته أن يرفق بهم في نصحهم وفي تصحيح أخطائهم ؛ ولهذا كان r كما وصفه معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه وقصته مشهورة معروفة، حين عطس رجل في الصلاة فقال يرحمك الله ثم رمقه الناس بأبصارهم فقال: ويل أمي ما بالكم ترمقوني بأبصاركم؟ فيقول رضي الله عنه :فبأبي و أمي رسول الله r ما رأيت معلماً أحسن تعليماً ولا تأديباً منه، فو الله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، وإنما دعاني وقال :"إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو الذكر والتسبيح والدعاء وقراءة القرآن".
وحين جاء الأعرابي وبال في طائفة المسجد وانتهره الناس، أدركه r بقلبه الرحيم وأعلمه بحق وواجب هذه الأماكن وصيانتها، فقال هذا الرجل :اللهم ارحمني وارحم محمداً، ولا ترحم أحد غيرنا، وذلك أنه رأى وعرف الرحمة في قلب النبي r وهذا يفسر لنا قوله r : " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ".
إذا فمن رحمة أهل السنة بالخلق أن يرفقوا بمن يقع في الخطأ ويقع في المنكر، خاصة الذي يقع فيه عن جهل ولم يجد من يذكره ويعلمه؛ فينبغي أن نحسن إليه، وأن نرفق به، وأن ندعوه بعملنا وسلوكنا ورحمتنا قبل أن ندعوه بقولنا وإنكارنا؛ فيرى في سلوكنا مما يشعره بصدق مقالتنا ودعوتنا، ويدعوه إلى أن يستجيب لما نرجوه ونطلبه منه.
الرابع: أن لا يسعى الإنسان إلى الحكم على الناس ويكون هذا همه. إن البعض من الناس يؤتى من غيرته وحرصه على حماية العقيدة فيتصور أنه بقدر ما يخرج الناس من العقيدة ومن دائرة أهل السنة والتوحيد يكون أكثر غيرة على عقيدة أهل السنة وأكثر حماية لها، ويتوهم بعض الناس أن الذين تطول قائمة من يجرحونهم ويخرجونهم من دائرة أهل السنة هم أكثر الناس غيرة على منهج أهل السنة، وأنهم أصدق الناس توحيداً، فهم أولئك الذين لم ينج منهم أحد، ولن يستطيع أحد أن يفلتهم.
إن المنتمي إلى هذه العقيدة العظيمة يعز عليه أن تخالف هذه العقيدة، ويدعوه حبه لهذه العقيدة وتمكنها في قلبه إلى أن يتجاوز مجاملة الخلق ومداهنتهم على حساب الخلل بها، لكن هذا أيضا لا يدعو الإنسان إلى أن يكون همه البحث عن أخطاء الناس والتفتيش عنها والتنقيب ويرى أن هذا من تمام الغيرة على العقيدة أليس النبي r يقول لأصحابه:"ما أحب أن يبلغني أحد عن أحد شيئاً"؟
والأمر لايقف عن أبواب السلوك؛ فحين قتل أسامة رضي الله عنه رجلاً قال لا إله إلا الله -والموقف يوحي ويشعر لكل من يقرأه أن هذا الرجل كما قال أسامة- هذا رجل يقتل المسلمين فما ترك أحداً إلا قتله، فحين أدركه أسامة – رضي الله عنه – ورفع عليه السيف قال: أشهد أن لا إله إلا الله. أي إنسان يسمع هذه القصة سيظن كما ظن أسامة – رضي الله عنه – أن هذا الرجل إنما قال هذه الكلمة فرارا من القتل، وإلا أين تصديقه بهذه الشهادة وأين إقراره بها قبل ذلك؟ ومع ذلك لما أنكر عليه النبي r قال أسامة إنما قالها فرارا من القتل قال له r :"أفلا شققت عن قلبه"؟
إن هذا الخطاب ليس لأسامة وحده رضي الله عنه، بل الخطاب للأمة أجمع، فما كلفنا بالتفتيش عن قلوب الناس.
هذا إنسان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد r رسول الله، بل يقول لك أنا على عقيدة التوحيد، وأنا على هذا المنهج ومن أتباعه، وتقول له: لا إنك لست على ذلك، وتنكر عليه ادعائه وتذهب تفتش عما يقول وتبحث عن كلمة تحتمل تأويلا حتى تخرجه من هذه الدائرة! هل مقتضى الغيرة على عقيدة أهل السنة يقتضي منا هذا المسلك؟ أم يقتضي منا أن نأخذ الناس على ظاهرهم؛ فمن أظهر خيرا وصدقا ونصيحة واتباعا للسنة قبلنا منه وحسابه على الله عز وجل، ومن أظهر خلاف ذلك عاملناه بما يظهر منه.
أما أن يكون الأصل عندنا أن نشك في عقائد الناس حتى يثبت خلاف ذلك، فليس هذا من الغيرة على عقيدة أهل السنة، ولا على عقيدة التوحيد، وليس من النصرة لمنهجك أن تسعى إلى إخراج الناس منه، وإبعادهم عنه.
كيف نتعامل مع المخالف؟
لاشك أن الرحمة بالناس والخلق لا يمكن أن تدعونا إلى أن نتستر على الأخطاء والأمور الظاهرة، وقد شرع الله لنا التعامل مع ما يظهر من الناس ويبدو منهم، وسرائرهم إلى الله سبحانه وتعالى.
والمخالفون أصناف منهم :
المجتهد المخطئ: فقد يجتهد الإنسان ويبذل وسعه في تحري الحق والبحث عن الدليل ثم يقع في خطأ، فيتأول نصاً من كتاب الله أو سنة النبي r على خلاف تأويله، أو تبدو له شبهة أو عارض من العوارض فيصل إلى نتيجة خاطئة، فهذا قد قال عنه r : " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد ".
والمجتهد الذي بذل وسعه معذور سواء في الأمور العملية أو الأمور الخبرية، وغالب هؤلاء إنما يقع خطؤه في أمور ليست معلومة من الدين بالضرورة. وقد يكون له من الخير والفضل والحسنات ما يمحو ذلك والماء إذا بلغ قلتين لن يحمل الخبث.
ومنهم الجاهل المعذور: الذي قلد من وثق في عمله وورعه ودينه أو وقع في أمر عن حسن نية.
ومنهم متعد ظالم ومبتدع آثم.
ومنهم منافق زنديق.
ومنهم مشرك ظالم.
فالمخالفون والمخطئون لنا ليسوا طائفة واحدة، وليسوا على درجة واحدة، ولا يجوز أن نحشرهم كلهم في واد واحد.
وقد تحدث أئمة أهل السنة حديثا طويلا مستفيضا عن الموقف من هؤلاء والتعامل معهم، كل على حسب منزلته فمنهم من يعذر ويحسن إليه، ومنهم من يغلظ عليه، ومنهم من يهجر، ومنهم من يؤدب ويعزر.
المقصود أيضا أن أهل السنة لا يبغون على المخالف كما قال شيخ الإسلام رحمه الله ويرفقون بمن خالفهم.
الرحمة للخلق لاتكون على حساب المنهج:
لقد سبق أن أهل السنة يعرفون الحق ويرحمون الخلق، وهذا يعني أن الرحمة بالخلق ليست على حساب المنهج، ولا تؤدي هذه الرحمة إلى المساومة عليه، وإلى الإغضاء عن الابتداع والضلال والخطأ.
ومواقف شيخ الإسلام العملية أيضا تؤيد هذا المعنى الذي قاله، منها مواقفه مع أعدائه الذين امتحن رحمه الله بسببهم وأدخل السجن وأوذي وصار له ما صار بسببهم، يقل ابن القيم رحمه الله جئت يوما مبشرا له بموت أكثر أعدائه وأشدهم عداوة وإيذاءً له؛ فنهرني وتنكر لي واسترجع ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم ثم قال إني لكم مكانه ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، فسروا به ودعوا له.
ولما مرض مرض الوفاة رحمه الله دخل عليه أحد الذين عادوه وآذوه واعتذر له، فقال: إني قد عذرت وحللت كل أولئك الذين آذوني وخالفوني، ولهذا قال عنه خصومه وهو ابن مخلوف:ما رأينا مثل ابن تيميه .. قدر علينا وصفح عنا وحاج عنا.
والمقصود من ذلك كله أيها الأخوة الكرام أننا ينبغي أن نقتدي بإمام أهل السنة وفرطهم r في هذا الخلق العظيم وهو الرحمة، وأن نرى أنه من تمام انتسابنا إلى منهج أهل السنة أيضا أن ننظر إلى سلوكهم وهديهم وورعهم وسمتهم، وأن نقتفي أثرهم عليهم رحمة الله ورضوانه أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من نجاه الله سبحانه وتعالى فكان على مثل ما كان عليه r وأصحابه إنه سميع قريب مجيب وصلى الله على نبينا محمد.