يقولون: ولدَ فلانٌ وفمه ملعقة من ذهب, ولكنّ أصدق ما يُقال عن فنّان مثل تحسين طه أنّه ولِدَ وفي فمه نغمةٌ عذبةٌ, حوّلته فيما بعد إلى نغمٍ يبهجُ النّفوسَ وينعشُ القلوبَ ويفكّ كربة المهموم سرى فيها بسلاسةٍ وعذوبةٍ كانسيابِ أحلامِ الكرد السّلسةِ المرويةِ بنجيعِ الأملِ والطّموح.
وهبته طبيعةُ كردستان المجبولة مع طبيعةِ أمّه الرّءوم صوتاً متميّزاً جمعَ كلّ الأضداد الّلغويةِ والمعنويةِ من حيثُ الرّقة والقوّة, الشّجنُ والفرح, الألمُ والأمل, الطّفولة والشّباب, لتحوّله إلى لحنٍ كورديّ أصيلٍ لم يعرف الوهنُ واليأسُ سبيلاً إليه على الرّغم من الآلامِ والأشجانِ التي توالتْ عليه من هنا وهناك.
غنّى لطبيعةِ كردستان السّخية كسخاءِ فكره وروحه بفصولها المتنوّعة فامتزجت شلالاتُ صوته مع شلالاتِ كردستان المتألّقة, وعانقَ صدى تغريده جبالها الشّامخة, وامتزجت دموع الفرح والحزن التي انسابتْ من مقلتيه مع أمطارها فأجاد وأبدع, وغنّى للعامل في عيده, وللفلاح المخلصِ لأرضه, وغنّى للمرأة التي رأى فيها حنانَ أمّه وصفاءَ حبيبته, وشموخ أرضه, وعراقة أمته ونقاءِ الإنسانيةِ الحقة, فأبدعَ وأتقنَ وغنّى للرّحى التي لمسَ في صوتها وأنينها أنين الشّعبِ الكرديّ ومعاناته, وبثّ لوعته إلى الزّمن والقدرِ اللذين أطفأ بريقَ النّرجسِ بعدما أقدما عليها ولكن ما أضافَ لغنائه النّكهة الشّهية هو غناؤه للطّفل وقد نقل عنه الكاتب خليل العراقي هذا القول الأثيرَ عن الطّفلِ:
(ليس من الطّبيعي أن نترك عالم الصّغار الشّريحة المهمة من دون أغنية تغازل عوالمهم الجميلة وتثير فيهم أجواء المرح والسّحر والجمال، عبر ألحان رشيقة خفيفة معبّرة, تعزّز قيم الخير والفضيلة والحبّ والتّعاون وغيرها من موضوعات تستمدّ مادتها من مفردات هذا العالم الجميل).
شكّل مع الفنّانة المبدعة (كُلبهار) ثنائياً غنائياً أضاف لمكتبةِ الغناءِ الكردي أغانٍ أقلّ ما يُقالُ عنها أنّها راقية كلاماً ولحناً وأداءً, وخاصة الأغنية التي ناشد فيها كلّ واحدٍ منهما الدّعسوقة ( Xalxalok ) أن تهديه إلى بيتِ الحبيب وما زالتْ أسماع الكرد تستمعُ إليها بشغفٍ وصدق. كما أدّى الغناءَ الثّنائيّ مع الفنّانة الخالدة ( عيششان) عندما زارت كردستان العراق في نهايةِ السّبعينياتِ من القرنِ الماضي.
كان تحسين طه يفلسفُ الحياةَ بحسبِ تجاربه التي كانت تشكّلُ نقطة التحوّلِ والالتقاءِ في وجوده, ولكنّه ظلّ يعشقها ويعشقُ الدّنيا وينسجُ لهما أعذب الأنغام على الرّغم من عدم وفائهما وإخلاصهما له أحياناً, فيعشقهما على طريقته, ويخاصمهما على قدرِ تقلّبهما, ويعتب عليهما بحسبِ غدرهما له.
وعن تكريم الفنّان بعدَ موته سنعودُ من جديدٍ إلى الكاتب (خليل العراقي) الذي يقول:
(وعن مجد الفناّن الحقيقيّ تحدّث لي في أحد الأيام ببغداد قائلا: تكريم الفنّان بعد موته لا قيمة له على الإطلاق. المبدع الحقيقيّ ينال تكريمه الحقيقيّ من حبّ الجمهور له وشعوره بالتّضامن معهم وبتضامنهم معه, هذا هو مجد الفنّان الحقيقيّ).
ولدَ تحسين في مدينة العمادية (Amêdiyê) في كردستان العراق في عام/1942/م, وانتسبَ في /1961/إلى معهد الفنون الجميلة في بغداد ولكنّه قبل ذلك بعامين أي في عام /1959/ كان قد سجّل عدّة أغانٍ للإذاعةِ الكردية في بغداد, ما يدلّ على ميله للغناء والفنّ وممارسته لهما في سنّ مبكّرةٍ ما جعلَ مختلف الشّعراءِ والملحنين الكرد يتنافسونَ على منحه أفضلَ أشعارهم وألحانهم لأنّهم كانوا على يقينٍ بموهبته وحنجرته الصّافية .
تحققَ حلم عمره حينما رأى بقلبه وعينيه حبيبته كردستان محرّرةً وهو الذي نالَ الويلات في حبّه لها وصلَ إلى درجةِ السّجنِ والتّعذيب.
على الرّغم من تحدّيه للقدر طوال سنواتِ عمره القصيرة, إلا أنّ القدر تمكّن من التّغلبِ على جسده القويّ فيما بعد حينما أوعز إلى الموتِ أن يتسلّل إليه متقمّصاً بُردَ المرض الذي لم يتوان في اختلاسِ الرّوح من الجسدِ, وذلك في /28-5-1996/م في / هولندا/ لينقلَ فيما بعد إلى حضنِ وطنه الذي كان المتنفسّ الذي يستقي منه رتائمَ وجوده, ولتحضنه مدينته الوفيّة له حضناً أبدياً بعدما استقبله الآلافُ من عشّاقه ومحبّي فنّه وصوته عند نقطة ابراهيم خليل الحدودية وليودّعوه جسداً ويحضنوه روحاً وصوتاً ونغماً خالداً.
بقلم نارين عمر
منقول