|
|
| الفصل الأول والثاني من رواية أكراد أسياد بلا جياد | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
roj maf Admin
عدد الرسائل : 1617 تاريخ التسجيل : 12/02/2008
| موضوع: الفصل الأول والثاني من رواية أكراد أسياد بلا جياد الأربعاء يونيو 03, 2009 10:15 am | |
| الفصل الأول
دغدغ وجنتي انبثاق الشمس الخجولة تخفي نفسها خلف الغيوم تارةً, وتظهر في كبد السماء الشاحبة تارةً أخرى, كأن شيئاً لم يكن, ينكبُ شعاعها الخافت مثل آمالنا, من ستارة بيتنا القديمة, مزركشة بألوان غير متجانسة، كأحلامي تلك الليلة.كابرت على نفسها, لتكسو النافذة ككسوة عروسٍ ثكلى بثياب سوداء بالية, قلبها حزين, لكن, من يراها يحسب تطايرها مع هبات النسيم من هول فرحها.. فتحت عيني وأنا أخدع نفسي, بأن النوم لا يزال يطرح جسدي, وسواسٌ ثائر ينتابني من ملائكة الحنين كأني بحاجةٍ إلى نومٍ سرمدي, لا أستيقظ منه إلا فوق تراب قريتي. نبضات قلبي تلعنني, تدق في شغفٍ كقرع طبول قبائل سوبارتو, حزينةً لا تريد ترك جثتي التي رافقتها عدة من السنين, لتزيد من خفقانها وترسم ألوان لومها لعدم يقظتي وطرد الضيف الثقيل عني. بين حيرتي ولوعتي, قررت أن أكون رسول خيرٍ بينها وأظل ممدداً في فراشي الملطخ بأحرفٍ متناثرة مبلولةً بماء الأسى, علني أرضي في أسوأ احتمالٍ حواسي. أطلقت العنان لناظري, تأملت الغرفة الحزينة التي لم أعهد الاستيقاظ فيها, أصبحت أرتادها وأنام بها قبل رحيلي, لأختصر رحلتي عند احتضاري, لأن الجثمان يُوضع في أكبر غرف البيت عند النحيب عليه, أملاً في أن أجد نفسي مقتاداً لقريتي, جثةً هامدة, كهلاً, عاجزاً, شجرةً, صخرةً, لا فرق عندي, المهم أن أكون في مهدي ولحدي.. وأن أدفن بين عظام أجدادي. تسلل طيف جدي إلى ساحة نزال بين أفكاري و ذكرياتي.. بعد نصرة الذكرى سبقتها دمعةٌ صامتة خرجت من طرف جفني, شقت طريقها إلى ما وراء أذني، كأسيرة كانت ولم تصدق أنه فُك أسرها بهذه السهولة والرجولة, فالأسير بجسده يأتي يوماً, تعطى له مفاتيح أغلاله ويساق لمن يبت بحاله, أما أسير الروح مثلي فيظل مكبلاً إلى أن تشرق نور الحرية القريبة البعيدة. حتى تقاسيم وجهي استغربت قدوم طيف تلك الدموع السابحة والهاربة من شبح السفر. فبحسب العادات الشرقية البائسة, فإن الدموع لا تذرف من الرجال، صنعت لتذرفها النساء على الرجال. تذكرته عندما كان يبحث بين حبات العنب التي أكلت منها الطيور وأحدثت فجوةً فيها وتمايلت لذبولها, كان يبحث عن تلك الحبات, يلتقطها, يأكلها بنهم,كأن أحداً سوف ينتزعها منه, ويقطف لأحفاده أشجع وأكبر عنقودٍ في القرية, قد فاحت بعضٌ من صفاته, كما تفوح رائحة النعجة المختنقة, أن البخل من خصاله, يحرس الكرم من شدة حرصه, لكن ما أذكره أنه لم يبع في يومٍ من الأيام حبة عنب لأحد, بل كان كثير السخاء مع الكل بغير حدود. أشعلت فيّ لهيباً تلك الحادثة التي جرت عندما أقبل على دالية كانت قد هُشمت وتناثرت عناقيد العنب على طول الطريق وعرضه, ينظر لها بحزنٍ مع عقدة التبرم في خارطة وجهه, ويقول: وهل في يومٍ من الأيام طلب مني أحدهم ما اشتهت نفسه أن تقطف وتأكل, أو يأخذ منها ما يطيب له ومنعت عنه؟ إن كرم العنب يكفي القرية والقرى الباقية ويفيض, لكن ما يحز في نفسي السرقة في الجهر لينالوا مبتغاهم دون ذرف قطرة عرق. أدركت بعدئذ أن جدي سريالي, فيلسوف من المدرسة الفطرية,يبحث عن اليقين في أصغر الأشياء, يريد أن يعبر بآرائه بقدر ما يستطيع, لو عاش لعلم أنه أخطأ عندما ظن أننا سنبقى على تلك البركة, ليتنا بقينا, وويحنا إن لم نعد ونبقَ. كان رحمه الله يملك ما فقدناه نحن: القناعة, العطاء في محله ومكانه. بساطته غلبت عليه, لم يكن يدري أننا نعيش وسط أناسٍ حسب المقولة: مثل الديوك تعتقد بأن الشمس لم تشرق إلا لتسمع صياحها, ونحن من أصابتنا الرجفة من صياح الديك, بعدما كنا نصطاد الذئاب بأيدينا ونقتلع رأس الأفعى بأسناننا. تحول الصياح في ليلة وضحاها إلى تنين ٍيملأ بهيجانه أرجاء المعمورة, لأننا نحن من صنعناه وألبسناه ذاك الثوب, صرنا نسجد له كالأساطير اليابانية, مؤمنين كل الإيمان بقوته التي اكتسبها من خوفنا وجبننا, بأنه يخرج النار من فمه ليحرق قرانا وأرضنا, التي أصلاً لم يبق فيها شيء يحزن على زواله. تكلم وثرثر على الرب, ولا تقرب من خيال التنين. لم نعد نجابه ولا نقوى إلا على أنفسنا, تناثرت بركة جدي أمام رياح الشح, صار لا هم لنا إلا أن نصعد على أكتاف بعضنا, نشي بهذا وذاك, حسدٌ قاتل حديث الولادة بيننا وفسادٌ استفحل , صار يرقد على وسائدنا بعدما كنا نسمع في الماضي عن رجال الدولة, لم يكونوا ليجرؤوا أن يلامس لسان أبنائهم طعامٌ وشراب ابتاعوه بمالٍ متسخ, مد اليد صار عادة, اشتهرنا بها من دمشق إلى قرطبة, يضرب بضمائرنا عرض الحائط, لنبيع شبابنا وكياننا من أجل حفنةٍ من دراهم لا تدوم, بل تديم الفجوة بيننا, تطفئ الدمع الذي كان ينهمر من داخلنا على ماضي الأجداد الذي لسنا جديرين به, لا يدركون البعد الذي ترسمه أيدٍ خفية, ليكون كل الشعب مخطئاً, ولكي لا يتعالى أحدهم و يطلب الصلاح, حتى يغرسوا في عينيه ما بَلع في فتات يوماً, وتطبق كل قوانين الأرض على رأسه.. والتنين يتفرج, يضحك علينا, يعتبرنا قد خنا القريب منا ولن يستطيع أن يثق بنا, مثل الخائن الذي قال عنه (نابليون بونابرت): سرق المال من أبيه ليعطيه بيده للسارق, فلا السارق يشكره, ولا الأب يغفر له ما اقترفت يداه. مِن فعل أيدينا صنعنا الهمّ, وابتلعنا العلقم كسيفٍ وصل إلى أسفل ظهرنا، والهم لم يتجرع منا, حكمنا على أنفسنا بأن نكون بمعزلٍ عن الناجحين, أقنعنا أنفسنا بأن أناملنا لا تصلح إلا لقطاف الزيتون وحمل لفافة التبغ، أو لسرقة الفتات, وأن الأنامل التي رسمت لوحة عباد الشمس, نحتت تمثال موسى, ووضعت أحجار سور الصين ودرست الطب والكيمياء.. هي أنامل أناسٍ من عالمٍ آخر , والعقول التي وضعت وصنعت الثورات وحركات التحرر والانفتاح هي عقولٌ مستوردة, سجنا أنفسنا في سجن التحسر دون سجان, وأن الأوان قد فاتنا وابتلعنا المفتاح لكي لا نرى نور الشمس الساطعة التي تصب العرق على جباه الأحرار, شُلت أيدينا, صارت هشة, كالبركة الصادقة التي كانت تجمعنا, صارت عاجزة عن حفر كوةٍ صغيرة لينبثق منها شعاع نورٍ ضئيل على مسرح حياتنا, وخرجنا من ديارنا بكلماتنا, ليس من بابٍ مفتوح أمامنا إلا الهروب والهجرة.. هوالحل الذي سينجينا من لهيب التنين الزائف, وأن التراب الذي نعيش عليه لا ينبت فيه الأبطال.. كنت أظن خطأًً في بداية أيام شبابي, أن الطاقة التي بداخلي قادرةً على أن تهد جداراً وتثني كومةً من الحديد، معتقداً أني سأعمل دون يأس لأخدم وطني الذي حناني له يغطي كل بقاع الأرض, ولن تلهيني لقمة العيش عن أهدافي السامية, لكن حدث عكس ما أريد, فابتعدت كل البعد عن كل ما يصادف طريقي, لأن ما سأفعله ليس إلا صلوات وثنية لا تلقى عند الإله أي حسناتٍ, ليذكرني بأني كردي, مسلوبٌ من أدنى حقوقي، سببها حرقة كانت تلدغ كبدي من أحوال الكرد, تناثرهم مثل غبار الطلع في الهواء, حدث ما يسمى في الفلسفة ردة الفعل العكسية, ونمت بذرة الأجداد بي, سقاها ماء أفعالهم وكلامهم. لا يهمني الشعار الثلاثي, فأنا أريد أن أشعر بحريتي من ذاتي, وعالم القمع لطالما ستسعى البشرية لاقتلاعه, لأنها الطبيعة الإنسانية. لكنها طامةٌ كبرى, إن شعرت أن المعظم صار يستنكر وجودك, لتصبح محارباً دون أن تشعر-حتى من أقرب الناس منك, ليقحموا برأسك أن الهجرة مكتوبةٌ على جبينك من أول يوم وطئت به هذه الدنيا, لتكون غريباً في الغربة، وغريباً في وطنك.. وغريباً حتى في قبرك ومماتك. شعوراً زائفاً ملكته عندما كنت أرى (خضر) قادماً إلى المدرسة بسيارة مرفهة بارحة يقودها سائقه الخاص, الدم يجري بين عينيه، كرشه المستدير, كأن ازدحام المخابز كان وما زال بسبب التهامه كل رغيفٍ بطريقه, وسوارٌ من الذهب الثقيل يزين معصمه، ليعبر بكل الطرق أن التخمة أصابته في كل شيء , الأحلام لا مكان لها بين جدران حياتهم لأنها سهلة المنال في أصعب الأشياء, وما معناها إن كانت تتحقق بلا تفاصيل باهظة مثل التي ندفعها ولا نبلغ عتبة بابها..كنت أساوم نفسي بأني أعلوه بتفكيري ونظرتي المتفائلة لمستقبلي, أحمل أحلاماً سأستلذ بكفاحي لتحقيقها, أنظر له بشفقة, تبين أنه كان شعوراً متبادلاً و طريقه الأقصر والأنفع.. هو برأي المجتمع الهش وبرأي أبي, الأذكى والأفضل, يخدعون أنفسهم ويخدعون حتى أحاسيس ألسنتهم..كان من دون المتفوقين يدب الرعب بكل الرسل, لم أكن أعلم أن هناك غير الله يهابه الرسل, أصحاب الرسالة وملقنو العلم, لكن كيف درس الهندسة؟ هذا ليس بالسر, يعرفه الجميع, بظنهم أنه مكانهم, يفعلون ما يريدون ونحن من ليس له مكان إلا خارج البلاد, أو أن نهتف لهم ونصفق على يفعلونه بنا ونرضى, معتقدين أن لا زوال لنعمتهم،كما آمن ( ستالين ) وظن ذلك (هتلر)، والعدالة الإلهية لن تصل لباب بيتهم ما دام أنهم يقتلعون كل رأسٍ يخالف آراءهم, لا يفكرون لثوانٍ, عندما نقمع الناس, لنضع أنفسنا دقائق وننظر للحياة بعدسة عيونهم التي يرون بها العالم من حولهم، لنرى ما سيكون موقفنا وشعورنا من أنفسنا.. القانون والدستور المقدس مخلوقٌ لنا وليس لهم, المخطئ يجب أن يحاسب، لا شيء فوق القانون, إلا هم، يحاك كالثوب على حجم أردافهم، متناسين جميع القوانين والأنظمة الوضعية والسماوية التي لا تغتال الآمال..لا أنسى أستاذي عندما استرقت السمع عليه وهو يجلس مع زميله، يُراقب مسيرةً إلزاميةً حاشدة, خرجت تؤيد وتهتف، ظانّاً أن المدرسة قد خلت، وأخذ مجده في تفوهه بتلك العبارات: - اهتفوا. واهتفوا, باسمه ومجده.. اهتفوا, تظاهروا، لأن النعيم الذي أنتم فيه سيزول بزوال هتافكم, كسرة الخبز والخوف من الجوع هي ثمن بخس لوطنكم, تناسيتم حكمة الله أنه لم يخلق فماً إلا وأطعمه، ولم يترك ظالماً إلا وقهره، ولا مظلوماً إلا ونصره.. وعندما علم أني أسترق السمع, سكت وابتسم، وما زال إلى يومنا هذا عندما أراه مصادفةً, يبتسم في وجهي وأبتسم له, لا يعرف سر تلك البسمة سوانا, إنه كان يعلم الخطيئة كالملايين غيره, لكنه حرم مثلي أن ينادي بها جهراً.. يقول غاندي: لا يستطيعون أن ينتزعوا منا احترامنا لأنفسنا ما لم نتنازل لهم عنه, إن موافقتنا على ما يحدث لنا وسماحنا به هو الذي يؤذينا أكثر بكثير مما يحدث لنا. | |
| | | roj maf Admin
عدد الرسائل : 1617 تاريخ التسجيل : 12/02/2008
| موضوع: رد: الفصل الأول والثاني من رواية أكراد أسياد بلا جياد الأربعاء يونيو 03, 2009 10:21 am | |
| الفصل الثاني
قطعت أفكاري طرقةٌ على الباب... مثلما تقطع زخات المطر صفوة رسامٍ في الطبيعة, فخيرها هو كرسام يحب المطر ويعشقه، وشرها أن لوحته إذا تركها تتحول بلمسات الطبيعة إلى لوحةٍ تشكيلية, تجريدية, مثلي تماماً, أردتها أن تأتي ولا تأتي, كانت أمي تلبس زيَّ صلاتها, شالها الأبيض المسدل أكثر من حدود كتفيها. لا رابطة قوية بيننا, ربما لأني أفرغت نهر حناني في بحرٍ آخر, عوضت عن حنانها بهواءٍ عميق أستنشقه من عبق طفولتي, بعدما لمست بأنها لن تستطيع كباقي الأمهات أن تفهمني, ربما كان شعوراً فلسفيّاً دراماتيكيّاً بأنها هي من جاءت بي لهذه الدنيا. دلفت لتبلغني بأن الساعة أصبحت السابعة, حاولت إيقاظي بعد الفجر لكني لم أستيقظ, فقلت لها: - طالما تأخرت دعيني أنام قليلاً وسأستيقظ بنفسي.. فعادت وأعادت في قولها: - بني إذا تركتك أعرف أنك لن تنهض, ستعود للنظر للأعلى مثل عادتك وتسرح بخيالك للأفق. وتلفظت بتلك المقولة التي مراراً ما تذكرها، ذلك المثل الكردي.. فحواه أن " الفلاح ينام بين روث الخيل ويحلم بإسطنبول " خرجت من عيوني نظرة تمادت بالقسوة عليها, انقبضت على تمردها, أرغمت هذا العقل على أن يُسبل تلك العيون بنظرة عطف إلى من فتح برمشها للدنيا، وليس ذنب الأم القسوة التي بها, تركت تلك العيون أن تخاطب عظمتها التي ستفوتني ببعدي عنها.. أي إسطنبول؟... يا أمي ليتك تعرفين, يا من لم ترأفي بحالي, كنتِ دائماً تذكرينني بفشلي وعدم إتمام دراستي, كنتم دائماً تلقون بخيوط الملامة والحرقة من أي شيء على شواطئ أحزاني, كم حاولت الحوار معكم.. كم جاهدت في سبيل إفهامكم أني وهمومي و أحزاني أكبرُ من الذي يجول في بالكم.. تعتقدون أني سأهدم البيت على رؤوسكم.. وهل بقي بيتٌ في الوطن عامراً و لم يُهدم, إلا بيوت العناكب والدبابير؟. وحسبكم الهدم والردم.. ليتك تفهمين يا أمي بأني رفضت أن أدرس تاريخاً مزيفاً, قد كتبوه كما مال بهم هواهم، لقد أبيت.. ما أذكره أنه أول رفضٍ لي, أن أحفظ خطاباتٍ وشعارات وأقوالاً خالدة أكثر من حفظي لكلام الإله سُبحانه, لم أكمل تعليمي لكي لا يحشوا عقلاً كان بكراً في حينه. قررت أن أنتهل من العلم الذي لا ينتهي في بحار الدنيا عند حدٍّ, أقرأ ما أريد وقتما أريد, أعلم نفسي وأولادي تاريخ الكرد.. لن أناقشك يا أمي بأن البطل (سليمان الحلبي ) هو سليمان محمد أمين أوس قوبار, كردي من قرى عفرين نسبوه وأسموه مثلما أرادوا مثل الآلاف غيره, ( عبد الرحمن الكواكبي ) أيضاً من ملتنا, ذكر كثيراً وأفرد طويلاً عن الاستبداد والظلم, ولن أخيب ظنك بمثلك الأعلى بإسطنبول وقادتها الذين كانت ستكسر شوكتهم, عندما أعلنت بريطانيا في الخامس من نوفمبر سنة 1914رسميّاً الحرب على تركيا واحتلت البصرة في 22من ذلك الشهر.. إنه تاريخٌ لا أنساه يا أمي, عرفته وأنا في عمر التاسعة, حفر كعمق البئر في أعماقي,كيف أن القبائل الكردية تصدت للإنجليز قبل أن تصل إلى حدود لواء الكوت.كان يقود الجيوش الكردية الشيخ ( محمود البرزنجي ) قُتل واستشهد العديد من الأكراد البارزين مثل رشيد باشا من السليمانية وغيره الكثيرون.. حاربوا الإنجليز ليزيدوا حقدهم حقداً, لأن جدنا صلاح الدين, ومازالت جراحهم لم تندمل, عندما أوقف أطماع الإمبراطورية الأوروبية تحت غطاء المسيحية لتتم تصفية الحضارة العربية والإسلامية من كل القيم التاريخية, فعلوا وانتقموا وقسموا بهدية كبرى لنا دون وطن, ولتلك الدول التي دافعنا عنها و ذرفت دماء أجدادنا على مشارفها, أنها اقتسمت زادنا وبقاءنا, وهبنا لهم سلاحاً بيدهم ضد بعضهم بعضاً, ونحن عندما نطلب أدنى حقٍّ لنا تتحد كل تلك الدول والشرق بأكمله علينا, يشتمون ويهتكون عرض وطول الحدود ولا يعترفون بما صنعه الاستعمار, عندما يكون الشأنُ خاصاً بهم, وعندما يكون الشأن عن الأكراد تصبح الحدود منـزلة ومقدسة من آلهة جليلة ومبجلة.. لا يا أمي لا أنظر إليك لأودعك، لكني أخاطبك من قلبي لتتركيني بهمي.. الذي لا أعرف هل حملته اختياراً أم اضطراراً.. رجعت للحديث معي.. ربما ظهرت علي معالم الحدة وهدأت.. كبركانٍ ثار وانفجر داخل نفسه، حتى سكان القرية الذين يقطنون على سفحه لم يغادروا البتة.. تمتمت وهي تُمسك سبحتها الخشبية التي طالما حلمت بأن أستبدل بها أخرى من الأحجار الكريمة, أقل ذكرى من ولدها الذي سيرحل عنها في أزقة الغد المجهولة.. طقطقة حباتها تصدر رنيناً كموسيقا الطفل الإلهي موزارت لطالما حبب إلى سمعي صوتها.. - هذا كلامك بأنك تحب الذهاب للقرية والجو باكر وممطر, اليوم هو مرادك, هيا.. هيا انهض وكفى لذهنك أحلاماً... - لا بأس أمي أعطيني بعض الوقت.. واذهبي للنوم..لم تنامي بعد الفجر.. رحلت وغادرت ولحقها تأملٌ مني وراءها, لأنها تعرف أن ثالث مطلبها سيكون جدالاً.. فقبضت على لحافي القطني الذي اخترق رأسي عبق رائحته القروية, كأني أعيش الفصول الأربعة في اللحظة ذاتها ولففته حول رأسي , تعرى أسفل جسدي, كمستاءٍ جدّاً من نفسه, أطفأت المذياع بحركة من أطراف أصابع قدمي وعدت لخيالي.. لكن هذه المرة ليس لجدي.. إنما إلى شيروان الكردي.. (كروبيون).. رجلٌ من صلب ثنايا الجبال, لم أستطع في ليل البارحة البارد الكئيب أن أستغل سكونه لأعيد ترتيب الكلمات التائهة التي كانت في لقائنا, جمعت ثلاثي المآسي على طاولةٍ نحاسية مستديرة.. هذا الذي لبس تاج فرعون وثوب موسى في آنٍ واحد, وجمع بين نسمات فكره وعقله الدهاء والتحرر, مزج في كأس حياته الحكمة والبوذية والليبرالية ومعاني سامية عن حب السلام والإسلام, إيمانه الراسخ بحوار الأديان, وطنيته، اعتزازه الذي لم أر له مثيلاً في العصور وكتب التاريخ القديمة والحديثة, عاش في جسده وذهنه كل نقيضٍ في هذه الدنيا, لأن ما كان يشغله كيف يجعل شعوب العالم تتلاحم بمحبة وسلام, دون أحقادٍ وكراهية ,أحلامه أكبر منه, فكرة إقناعه بأن السلام صعبٌ أن يعم بين شعبين تقاتلا وسالت دماء كليهما كانت صعبة, ربما كان يظن أن الناس تحب وتعشق السلام مثله.. لأنه تناسى آلامه وآلام أجداده وتخلى عن أي مطلبٍ وثأر, وحلم ورضي بحياةٍ بسيطة تسودها الحرية وأجزاء لا تذكر من حقوقه، ليقنع غيره بأنه راضٍ عن أي شيء رغم كل شيء, لكن حتى تلك التي تسمى أي شيء احتاجت لانضمامه لنا, لكي يسعى في أن يحصل مثلنا على أدنى وجودٍ له.. تُذكرني تقاطيع وجهه, حزن عينيه, شعره الطويل الذي يجاهد ليصل لأكتافه, لحيته الكثة بخيال المسيح الذي تناثرت صوره داخل الكنيسة, يوم تجمعنا بها في إحدى القرى النائية ووارينا بها الثرى صديق أبي رحمه الله أبا يعرب.. لاقيته في دمشق البارحة, كنت هناك لأنهي أوراق السفر, لأودع شوارعها وحواريها, أصدقاء الجيش الذي قطف من زهرة شبابي عنوةً قرابة الثلاث السنوات.. عندما بدأت لم أكن لأتخيل أبداً أنه سيأتي يوم أنهي فيه خدمتي, وأزور دمشق مودعاً وأرحل عنها كما الذي يعود محبطاً من الحرب قاتل ودافع ورمى بكل ثقل جسده, ثم تعود له قرابينه خاسئة مرفوضة، ويتوج غيره بأوسمة النصر رغم أنه لم يسمع عن تلك المعركة لكنه حظي بحبٍّ واحتضانٍ لا مثيل لهما , عين في وظيفةٍ من تلك الوظائف التي خصصت للذين عناهم جدي, لم يعرقوا.. كما قال لي العم (حميد) ابن عم أبي وهو يضع داخل يدي نقوداً أسعفتني تلك الأيام حينما قابلته في أحد الأحياء مصادفةً في دمشق , وأنا لا أملك قرشاً واحداً, جائعاً, حائراً، ما كنت أملكه أملي بالله الذي قادني بإلهامه أن أمشي في شوارع لا أدري أين تقودني, إلى أين ستوصلني، ربما إلى رحمة الله التي تجلت بشخص العم حميد ( أبي رشيد ) ودون أن أطلب منه أعطاني ما أبتغيه ويفيض, وهو يقول لي: - لا يدوم إلا وجه الله, كل شيءٍ إلى زوال, ستنهي الخدمة وتجد هذه الأيام صارت من الماضي..كان كلامه زبد الصواب, أنهيت خدمة الجيش, لكن,لم أستطع أن أنهي كلامي معه وأجتمع به ثانية بموعدٍ أو مصادفةً, لأن لقائه صار أبعدُ من حلم, لكن, كنت شديد الحرص على أن لا أنسى ذاك المعروف الذي زرعه معي، وأحرص كلما ذهبت لزيارة أبيه (بافيه خالوه) أن أعطيه ما يقدرني الله عليه جزءاً من رد الجميل, لأن الإنسان أحياناً يشعر بأنه عاجز أمام فعل مهما يكن بسيطاً لم يلقه من أقرب الناس منه, لأنه أعطي بسخاءٍ من شخصٍ هو بأمس الحاجة لما عنده , رغم علمي بأحواله, لكنه لم يتردد أن يقدم لي العون الذي تجلى بالعطاء الحقيقي منه, هو عينه الذي قصده جبران وقال عنه: (جميل أن تعطي من يسألك, وأجمل منه أن تعطي من لا يسألك وقد أدركت عوزه). تلك كقصة الكُرد-لم يلتمسوا العطاء حتى من أقرب الناس منهم, لو أعطوا لكانوا دون أدنى شكٍّ مثلي لا ينسون العطاء، وإن كان ذاك العطاء الذي سيهبونه لهم ليس مما يحتاجونه كما حاجة العم حميد لما أعطاني إياه, إنه عطاءٌ من كنوزنا وحقوقنا ولا نملك إلا كلمة شكرٍ لنقولها, والتي حرمتني الدنيا من ذكرها للعم حميد.. لأنه انتهى هو من هذه الضوضاء, رقد بسلامٍ فجأة, مبكراً مثل العم ( أبي يعرب )..والخال (عبدالله).. وجدي, كُثر كانوا من أخذهم الموت, انتزعهم من فم الحياة وهم في عز عطائهم, ومطرقة العطاء التي ينهال بها الحداد ليكسب عيشه ما زالت بيدهم.. كنت في طفولتي أحمل شبق التعلق بهم, أحاور دائماً نفسي, سيأتي اليوم الذي أحادثهم بعدما أكون نضجت وأصبحت يافعاً بنظرهم, لأتذكر معهم بعض العبارات والأحداث التي مرت علينا, سيكون الشيب بدا على فرو ة رؤوسهم, لكن, حتى الشيب استكثر أن يطول بقاؤه عليهم, كم كنت تواقاً في صغري للحديث معهم, كم تعلمت من حديثهم وصمتهم الكثير وفاتني الأكثر منه, لكن الزمن لا ينتظر الأماني والأحلام, لا كبير مع الموت, إن الإنسان مرده إلى من فطره, رحمهم الله..ذهب كل في طريقه, كان آخر مكان أجاهد وألهث لأصل له ذاك القبر الذي نُصب من عبق تراب وصخرتين ترسم مسقط الرأس ونهاية خطوط الأقدام التي جالت الدنيا بنقطةٍ من حلوها وجبلٍ من مرها, الذي قادهم للجنة ونعيمها, وأنا لجهنم التي على الأرض, تركوا شوكةً في القلب لتعصر مر الحياة دون سبب ٍعلى كل برعم ٍ يحاول الانشقاق. إنه قطار الحياة يمشي دونما توقف, لا بدّ لكل واحدٍ أن ينـزل منه, لا بدّ من وصولك إلى المحطة المعيّنة لنـزولك, سينـزل غيرك في محطة أخرى, منهم من نزلوا قبلك, لا تستطيع أن تختار متى ومع من ستنـزل, لتلوح بيدك لجموع الناس الغفيرة ممن ظلّوا في القطار, تودعهم, تذوب وسط الزحام, بانتظار الحشر, مع حزنٍ يبدأ كبيراً داخل أعماق محبّيك، ثم ما يلبث أن يصغر شيئاً فشيئاً, مثل تلال القرية التي تبتعد وتتضاءل عندما نغادرها قاصدين المدينة.. " إن سر الحياة والموت كان ولا يزال وسيبقى بيد الله, هذه حقيقة, لا تشوبها شائبة ". ألم ترَ أنك تُلف بقماط أبيض لحظة ميلادك, وتُلفّ بكفن أبيض مثله عند الممات.. ستجد بعدها أن الحياة كلها ما هي إلا لحظات.. بضع لحظات آن لها أن تتبخر.. لم أكن أرغب في أن أترجل من القطار دون أن أعطي للدنيا ولنفسي حقها, أن أنتزعه من فم الحياة أو أن تنتزعه الحياة مني لا فرق, آمالي كأي آمال, وأبنائي يجب أن يكونوا كأي أبناء, عالمٌ كبير يحيط بنا, آفاقٌ نيرة وأخرى مظلمة. عظماء, رؤساء, سلاطين, ملوك..رحلوا.. ترجلوا من القطار.. يُذكر حسن فعل بعضهم ويذكر ظلم وقبح أغلبهم, سجل العمر فيه صفحات يجب أن تُملأ, أهداف يجب أن تقطف.. ثمة رجال خُلقوا لتُزرع قاماتهم في جبال الصعاب, ما دفعني أن أنشئ جمعية ( الحزام ) لخدمة الكرد والإنسانية, والحياة ليست إلا أمانة في أعناقنا سنسأل فيم أضعناها إن كان خيراً لنا ولأبنائنا وإن شرّاً لنا ولأبنائنا ولعذابنا.. جلست مع (شيروان) في مقهى النوفرة, في دمشق العتيقة, كنت جديد العهد مع الغليون الذي لم أكن أظهره للناس والملأ إلا بعد تحرري من العبودية, أظهرته برأيي شعاراً خاصّاً يعبر عن جزءٍ مفقود من الحرية, أشعلته ودخانه شكل غيمةً وهمية من عبقه, تلاشت بسرعة في الهواء, اختفت في المجهول كما ضاعت نفسي بعدها في حواشي الغيوم.. جلس وكعادته السيئة, يلاعب لحيته الكثيفة, يستنشق من أنفه ليشتم رائحة التبغ التي كانت تحلو له من غليوني, والهواء يدفع بها لترتطم بقاياها بوجهه الصبور, زين عنقه بسلسلةٍ فضية وضع فيها حرف الكاف باللاتينية لتدل على (كردستان) لأن ذلك أقصى درجة من الحرية المخفاة التي نمنحها لأنفسنا, حتى لو علموا ما يرمز له ذاك الحرف الوحيد لاقتيد وزج به.. ينظر لي باستغراب, غير مصدق أني أنهيت خدمتي وسأرحل بعد عدة أيام إلى الخليج, كان يعتبرها مزحة مني لأني كنت كثير التذمر عليه وعلى الإخوة في الآونة الأخيرة, كنت أطلق دائماً عبارات التهديد بالانسحاب والتخلي عن كل شيء إذا ظل تقدمهم كالسلحفاة, لكنه أيقن عندما رأى التأشيرة ألصقت على جواز السفر أن الموضوع خرج من قدم السخرية وتدحرج إلى ملعب الجدية, ما ينقصه صافرة البداية التي ستربكه.. تأهب للحديث ومن ثم ضج.. اتسعت قزحيتا عينيه, التقط أنفاسه, كأنه مصارع ثيران يريد أن يجمع قواه في شهيقه, ثم أخرجه بقوة عارمة لدرجة أني شعرت برائحة نفسه المخلوط مع عطره.. - أين ستذهب..؟ ولماذا؟.. - إلى بلاد الله الرحبة.. إلى البلاد المقدسة.. - وأحلامك.. وآمالك؟ كم كنت أبله عندما أخفيت عليه وآثرت ألا أقول تلك الحقيقة التي كانت السبب الرئيس وراء سفري, وأن الحبل الذي مددته بيني وبين الوسيط مع النظام ( أبي مهران ) التف حول عنقي, فهمت منه في لقائنا الأخير: اخرج من البلاد سالماً قبل أن يصيب عائلتك أي مكروه, تلك الرسالة,كانت الجواب الذي وصلني عندما طلبت بكل وضوحٍ مقرّاً تدريجيّاً لجمعيتنا, نسي كيف أنه حبك مَكرَهُ وتظاهر بالتأييد والرضا في البدء, وأخذ يفردُ لي ويلج بحمدِ الكرد, أن رؤساء سوريا السابقين ( أديب الشيشكلي ) و(وحسن الزعيم) و( فوزي سلو ) هم أكراد, وأنه كان معجب بالزعيم (كمال جنبلاط) ذو الأصول الكردية, وتحدث مطولاً عن حرب تشرين التحريرية عندما استخدم الجيش السوري للتحدث في اللاسلكي اللغة الكردية في الجبهة, حتى لا تلتقط الرادارات ولا يقدر العدو على فهمهم, وأن أول طلقة كانت ضد الاستعمار الفرنسي كانت من المناضل الكردي ( محمد أيبو ) من منطقة عفرين.. ظل يحفر لي إلى أن أمسك بخناقي وشد الاعتراف من لساني عن ما يجول في قلبي, سياسة سافلة جوفاء... لم أكن أريد أن أظهر لشيروان أني لم أتمكن من الحفاظ على جلدة وجهي, عندما سيعلم أني طرقت الباب الذي تأملت خيراً وراءه, بعدما كنت أصرخ في وجوههم بأن يتخفوا ويكتموا كل شيء,حتى أمام أقرب الناس إليهم.. قلت وسط انغماسه بصمتي وذكرت له جزءاً من الحقيقة وكتمت الباقي الأهم عنه: - اسمع سأسرد لك باختصار.. دون غيرك, تعلم أني كنت في بيروت قبل أسبوع, كان الوسيط بيني وبين (رودي) جاء من هولندا للزيارة, واتصل بي, قال: إنه يحمل رسالة من المذكور, اندهشت عندما علمت أنه يقترح علي تجميد نشاط الجمعية لفترة وجيزة, لأنه علم من مصدرٍ موثوق بأن الخناق سيضيق على الأكراد, واعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني ( عبد الله أوجلان ) ما هو إلا مسألة وقت, حيكت مؤامرة كبرى ضده وضدنا, أنت أكثر علماً بهم, ليصبح العدو بين عشيةٍ وضحاها صديقاً والصديق عدوّاً, إنها خيوط أنسجة السياسة التي قال عنها أحدهم: لا فرق بينها وبين الدعارة, والمصلحة واللذة فوق كل شيء.. سيحاول (رودي) ويناضل من أجل أن تكون جمعيتنا علنية ومعترفاً بها على الأقل في أوروبا, إنه الآن في سنـته الأخيرة في فرنسا لينهي دراسته في العلوم السياسية, لن يستطيع إلا التفرغ لها. هوحريصٌ علينا وعلى نشاطنا الذي سينكب كما النهر يضيع في البحر إذا ما حصلت اعتقالات بين صفوف الأكراد, التي لن يسلم منها حتى المناهض والودود وكل من يشك بانتمائه, فكرت مليّاً, وصلت لهذا القرار, إني سأذهب للخليج لأبحث عن مصدر زرق ليعيل في أدنى احتمال فكرة تمويل وترخيص المكتب الذي سيحمل اسم جمعيتنا, الذي قررنا أن نفتتحه في مصر أو عمان, ولا يخفى عليك أيضاً أنه عصر الرأسمالية وقوة الاقتصاد الحر الذي يحرر الشعوب, يتقدم بها إلى أعلى درجات التطور والرقي, سأذهب للقوم الذين بنوا من الرمال الآمال, اخترت بلداً عربيّاً لكي أضمن لنفسي العودة لعشي، لأن الذي يختار البلدان الأوروبية يذوب بالحرية وقيمة الإنسان عندهم, لا يفكر بالعودة لكي لا يقضي بقية حياته يتحسر على أيامه, أو يسجن بتهمة انتمائه وموالاته لبلدان تحرض على جريمة الحرية التي يعاقب عليها قانون بلادنا الخفي.. قال بعد حسن إنصاتٍ منه: يعني أنك تأخذ كلامه مثل كلامٍ منـزل, تريد منا أن نتوقف ونراوح في مكاننا بعدما قطعنا شوطاً من النضال, وصار عددنا لا يستهان به داخل المدن والقرى. قلت: لا.. لن أفعل مثلما اقترح, ليس هو من يعلم الوضع أكثر من الذي يقبع داخل جذع الشجرة مثلنا, فنحن متفقون على مبدأ الأهداف والعهود العشرة, والاختلاف بالأسلوب نظراً لطبيعة البلد الذي يعيش فيه كل منا، لكلٍّ منا منطقته ومكانه الذي هو أعلم به, سنتقدم بحذر وبطء, نستمر على نفس المقدار من السرية وربما أكثر والأخذ بالاعتبار كل خطوةٍ صغيرةً أو كبيرة, أنا يجب أن أغيب عن الأنظار ليس لشيء إنما للأسباب التي ذكرت والتي تخص التمويل.. قال: هل السبب هو البحث عن التمويل أم خوفك من اعتقالك؟... لم أستغرب من استنتاجه, ولم تمر الكلمات على دهائه إلا مرور الأذلاء. قلت: كما تشاء فسر على هواك, كما يحلو لك، لكن ثق تماماً بأن الأمر هذا هو الأسلم والأفضل بأن أبتعد قليلاً لأراقب من بعد وأتأمل كيف يرانا العالم, كيف ينظر لنا وما هو سر رفضهم لنا.. قال بصوتٍ يرافقه ترانيم التوسل: والشباب, هم علقوا عليك آمالهم.. تستطيع أن تختفي على الأنظار داخل سورية, ما أكثر من سيفرد لك صدر بيته إذا ما حدث الذي تخشاه, أين كلامك وأنت الذي كنت ألد أعداء الهجرة والغربة؟ كان دائماً كلامك للإخوة بأنك إذا سافرت وتركت ضباب الشتاء وراءك سيكونون بذلك قد اغتالوك وسط صمت القبور، ورفعوا رايات نصرهم دون معركة ولا حتى رصاصة بندقية، وتكون قد وفرت عليهم حتى عناء حمل جثمانك لدفنه. قلت له وأنا أحاول أن أغلق باب النقاش أمامه: لا تتعب نفسك.. لقد فات الأوان وقررت. وبعد صمتٍ قليل عاد وقال: - هل أبلغت الشباب؟.. | |
| | | roj maf Admin
عدد الرسائل : 1617 تاريخ التسجيل : 12/02/2008
| موضوع: رد: الفصل الأول والثاني من رواية أكراد أسياد بلا جياد الأربعاء يونيو 03, 2009 10:22 am | |
| - لقد تركت لك ذلك, كما حدثتك لن يتغير شيء على العموم سوى بعض النقاط التي سأذكرها ونتناولها في جلستنا التي أريدك أن لا تظهر أي شيء من الأسباب التي ذكرتها لك.. ليس أنانية ً إنما لا أريد أن يكون كلامي سبباً لتثبيط عزيمتهم ومعنوياتهم، وستسمع في الجلسة أخباراً تسرك.. - بالمناسبة هل أعلمتهم بالزمان والمكان؟ - اتصلت على( نوزاد) وتركت له مهمة إبلاغ (جوان) و(حسين) و(محمد). والباقون سأكلمهم بعد قليل.. أظهركومةً من الأوراق المبعثرة معه, صار يعيد ترتيبها من جديد, لكنه كان شديد الحرص على أن لا تطير إحداها مع هبوب الهواء العليل الذي كان ينعش المكان واختلط مع رائحة النرجيلة التي كانت من معالم ذلك المقهى.. كنا نرتاده تقريباً كل يوم.. قررت أن لا أقاطعه لأنه كان يبحث عن ورقة معينة, ينظر لي بتمعن ثم يعيد نظره للأوراق, ينتظر مني أن أرجع وأمسك بطرف الكلمات المفقودة.. التي تجول وتجمع شتاتها بذهنه لتشكل صيغة سؤالٍ.. لا أدري ما جوابه... لكن الحبيب الجديد, ذاك الغليون الممتع منعني وصار يداعبني مع القهوة الشيقة لأتجاهله هو وحديثه وأتمعن المكان الذي سأودعه, كان على يساري بابٌ من أبواب المسجد الأموي كأنه باب الريان من عظمته وضخامته, وقع نظري على البيت الذي يواجهه, شبابيكه الخشبية المشغولة باليد ورائحة التاريخ الدمشقي تفوح من كل أرجائه, وصموده الذي أدهش الحي, أمضى دهراً وما زال كالبنيان المرصوص، يخيل إليك أنك ستسمع من وراء جدرانه صليل سيوف الفاتحين، شعرت بأن الأرض تهتز من تحتي, لقدوم جيش الناصر صلاح الدين.. تجد الدكاكين تناثرت على الطريق المؤدية للمقهى, ملأت المكان, بتروا من كل بيتٍ بهواً ليملؤوها بالبضائع التي تثير غريزة الزائر وتغريه, من عملة معدنية قديمة, ساعات من الأنتيك، وسبح, تبلورت بنظري إحداها, تذكرت أمي بها بالحال, لكن فقر الحال حال دون الظفر بإحداها, تفترش الجدران كتبٌ ثقيلة, منسوجات يدوية, عباءات بأشكال عجيبة, الباعة يمكنهم بيعك الهواء الذي تستنشقه, يتكلمون اللغات, يقهقهون, يتجولون ولا يَكلون.. لا أدري ما الذي دفع بـ ( جلال ) إلى ذهني وعائلته المسكينة.. أمضى في دمشق أكثر من عشرين سنة لم يستطع أن يظفر بمحل مثل هؤلاء, ربما لأنه لم يستطع أن يفهم فنون التجارة مثلهم, ومازالت البساطة الريفية تسيطر على حياته وطريقة عيشه, ربما كان خوفه حتى من النجاح نفسه, ولن يسمح بولادة وجهٍ جديد غريبٍ عن المعتاد, لأن العاصمة هي وكر لأمثال خضر ومن مال مع أهوائهم.. كنت أرى أكبر وأثمن مكتبة عرفتها في حياتي داخل تلك الغرفة المنعزلة في بيته, كان كثير الانعزال بها, يقرأ بشراهة لجبران, نيتشه وأرسطو, حياة بدر شاكر السياب والعديد من أدباء المهجر, يغفل عن قراءة التاريخ الكردي, كانت له آراؤه الفلسفية المنطوية, وكان متأثراً بالنظرية الماركسية إلى أقصى حد, لم أكن قد ألمحت له, أو فاتحته لانضمامه لنا لأني أخذت عهداً على نفسي أن لا أحشر الأقارب معي لكي لا تُخلط العاطفة بغيرها, لأني تجرعت من عدم اكتراثهم مراراً, تبين أن ضررهم أكثر من نفعهم, لأنهم مهما كتموا, سيأتي اليوم الذي يبوحون به لغيرهم من العائلة, تلك السرية التي تنتهجها جمعيتنا لا تتوافق مع لا مبالاتهم.. أراد جلال أن يعمل في مجال لطالما أحبه, ذاب فيه وأُذيبَ به, ما زال إلى يومك هذا يبيع الكتب القديمة ويشتريها على أرصفة دمشق, حاله يبكي من كثرة هرولته من سيارة البلدية الذين لا يعلمون أنه قد باع واشترى كتباً تفوق عدد شعر رؤوسهم جميعاً, لا يدركون بأن جلالاً يبحث عن المكسب الروحي أكثر من المادي, بالكاد ما يكسبه يغطي رمقه ورمق عائلته, لأن الفقير دائماً هو الهدف من قبل عهد فكتور هيجوه إلى يومنا، وللمفارقة التي تغرق الحس, تجد كل الممنوع وغير المسموح به على أرصفة دمشق, بين أرفف حوانيتها تارة سرّاً وتارة علانية، وبسطة التبغ المهرب أكثر من الخبز, كلها أظنها لأقارب خضر وحاشيته، وإن لم تكن, فلهم فيها جزء من الضريبة المخفاة التي تدفع كل حينٍ.. لا أحد يجرؤ على التكلم معهم، فهذا حالنا نمنع الكتب والعلم ونسمح بالسموم تباع على الملأ, نجعل الباطل حقّاً إذا شئنا والحق باطلاً, هكذا أصبح قانون البقاء.. أن الفقير والمعدوم كبش الفداء. لذلك لا تلمني يا ( شيروان ) إن كنت كتمت بعض الأسباب التي قادتني لسفري, أنت كل يومٍ تأكل منها وتشرب, لست من الذين لم تطلهم يد الشر, إن كان بشكلٍ مباشر أو غير مباشر,كلنا مرمى لبنادقهم, لطالما في رؤوسنا أسئلة كالتي في رأس أي إنسان له الحق في طرحها، وإن كان الجواب يقبع داخل السؤال وهو السبب فينا، كقول الشاعر : نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا أقولها له بين نبضات قلبي: دعني أهرب لا فرق أملاً أم حرجاً, لأنهم اغتالوا الكلمة, هل سيتركون خصلات شعري يداعبها الهواء وتتنفس تلك الحرية الزائفة إذا ما علموا أني أسعى مع إخوتي إلى اعترافٍ رسمي, أو حكمٍ ذاتي للكرد في بلدي.. أنظر إليه لأراه ما زال مستغرقاً, منهمكاً. هو ضحية مثلي, لم يكمل دراسته بسبب عمله نادلا ًفي أحد المطاعم ليعيل عائلته التي وضعت كل أملها به, تعلم الألمانية من نفسه لكي يهاجر لكن أمه تضرعت بأحضانه لكي لا يتركهم وحدهم لأنه بارقة الأمل المتبقية لديهم, لا يحب الغربة, ولا التعليم الذي لا يقنع به, لكنه يحمل ثقافة لا يحملها أكبر علماء الفقه والتاريخ, ثقافة فطرية نقية, قال لي مرةً: إنه يقرأ في اليوم نحو خمسين صفحة, ما يعادل ألفاً وخمسمائة صفحة في الشهر, لا يغمض له جفن لو أنه قصر بعدم إكمالها, كم كان يستمتع بها، وكم كان يعيد تلك الجملة على مسامع الإخوة: - ( فلنقرأ إن لم نستطع أن نقرأ بقلوبنا ما يجب أن نقرأه من تاريخنا )..كان تركيزه ومحط اهتماماته التي كنت غافلاً عنها, إنشاء فرع في جمعيتنا, خاص بالثقافة الكردية موجه لكل البشر, لكن الفكرة لم تولد, لأننا كنا حتى بهمنا وجمعنا كعصافير لا يكسو جسدها حتى الريش, ولم نكن لنخلق لنا همّاً, سوى نهج الكفاح السلمي.. ترك قريته التي هي من أجمل قرى (عفرين) ليقطن في حي ركن الدين, الذي يقطنه الغالبية الكردية. كان أبوه شرطيّاً بسيطاً تقاعد مبكراً, استطاع أن يظفر بذلك البيت خلال سنوات خدمته الطويلة, اعتادوا عليه وضمهم بين كتل جدرانه الإسمنتية الرطبة, له أخ هاجر إلى قبرص, لم تسمع أخبارٌ عنه منذ ثلاث سنوات, يقال إنه غرق في إحدى السفن التي يهاجر بها الناس بصورة غير شرعية, حُرم حتى من قبر لرفاته, لكنه كان رافضاً تقبله ذلك الأمر المرير, ولم يكن ليرضى بحقيقة أن أخاه مات, كان يردد جملته: نحن كلنا أموات..أخته الفاتنة زُوجت لإيطاليا لرجلٍ كردي يكبرها بعشرين سنة لأنها ظنت أنه سيخلصها من الفقر ويجعلها أميرة روما.. شتاتٌ في بقاع الأرض.. هذا هو حال من لا حرية له داخل وطنه, لا وجود له.. أحزن عليه وأراه مجدداً أمامي قد أخرج محفظته وهي تحمل صور أخيه وأخته, والدمع يحتبس بعينيه اللتين تقعرتا في محجريهما, رسمت حولهما تجاعيد مبكرة من هموم حياته وقسوتها, حسرة البشرية كلها تُقرأ في تقطب حاجبيه, لكن رغم ذلك كان يكابر بالابتسامة.. أردت الابتعاد عن التمعن فيه لأنه كان يشعر بالإحراج عندما يُكتشف في لحظات ضعفه, وكم أفهمته أنه إنسان أولاً أو آجلاً.. يحمل أحاسيس كغيره ويحق له البكاء, والحزن, والفرح الذي هجره منذ أمدٍ بعيد, لكنه لا يُحبذ أن يرى أحد ذلك فيه, أدير وجهي عنه, أشغل نفسي بغيره, ليقع نظري على جموع الناس الغفيرة من كل حدبٍ وصوب, منهم من أعطته الدنيا بسخاء أكثر مما يستحق, منهم مثلنا منت عليهم بقروشٍ لا تكفي لشراء حتى مرهم لجراحه, جاؤوا بعدما بدأت الشمس تستعد لرحيلها كل في كرٍّ وفر, لو نظرت لحركة الناس هناك لخيل إليك أن الحياة لا تنتهي أبداً, كأنك في ميدان معركة لا قتال فيها, إنما هي معركة الحياة والبقاء دون سلاح.. سعل وتفوه بكلماته أثناء سعاله, وهو يناشد الأمل مني.. - بم تفكر؟.. وأين وصلت؟ تصاحب مع كلامه نبرة حزنٍ خفية.. -كيف ستترك هذا النعيم لتذهب لصحراءٍ قاحلة؟ رأيت ضعفاً في كلامه لم أره خلال السنوات التي عرفته بها, وأتم.. - أشعر أني سأضيف صورتك لمحفظتي التي سئمت مني ومن أملي, الذي ملني ومللته..لمن ستتركني؟.. هل لهذا الزمن الغابر..؟ وبدا صوته يختنق ثم يختفي مثل سراجٍ أوشك زيته على النفاد.. ومع من سأقلب أوجاعي وأحزاني.. وأي ظلٍ سأحتمي به.. وأي وطن سأفكر فيه بعد رحيلك.. - لا تقل هذا ولا تكن كالنسوة.. أقولها له وبي شوقٌ أكبر من المحيط لاحتضانه والبكاء على كتفه.. لكننا نكبت أصدق إحساس نشعر به ونواجه العالم ونتعامل مع أنفسنا بأكثر الأحاسيس زيفاً وكذباً, لا نعرف إلى متى سنكتم ما بداخلنا.. لم أشأ أن أدخل معه في نقاشٍ واضح ما هو آخره, بل لم أكن أريد أن أنبش في قبر أحزاني وأوجاعي, وأنا ألون درب سفري بألوان أرجوانية تنسيني هوسي بأرضي وأهلي وكتبي وحبيبتي لبرهة من الزمن... تجاهلته وعدت إلى رقصي مع فكري الذي افتقدني, لمجرد الغياب عنه قليلاً, لأني كنت حشوته مثلما يحشى بيت ذخيرة بأفكارٍ تساعدني على الهروب, لكي لا أتراجع عن قراري في آخر لحظاتي, وأرجع لموتي, ففي كلتا الحالتين أنا كذلك, لكني إن كنت تراجعت فذلك أشرف لي من أن أموت وجسدي لا يكرم بدفنه.. قطع تفكيري علي هذه المرة ضربات سيف الحكواتي الذي يقبع بالداخل, يسرد سيرة عنترة بن شداد, الناس تجمعوا حوله, منهم من يفهمه, ومنهم من الأصول غير العربية لا يفهم سوى ضربات سيفه لينفعل معه, ويعلو تشجيعه وتصفيقه.. يختلط صوت الحكواتي مع تمتمة الناس وصرخة صبي الجمر ليلبي الجمهور.. بلال صبي في العقد الخامس من عمره, صار من أعمدة ذلك المكان, حتى لو صار عمره مائة عام سيبقى بنظر الناس صبي الجمر لينادوه.. نارة يا ولد.. مثل الكرد كتب عليهم أن يلازمهم لقبهم.. رجال الجبال. اشتهر الصبي أكثر من صاحب المقهى الذي كان يقبع بالداخل مثل العراب, أمثال بلال من أتباعه,كل نرجيلة له معها قصة وحكاية, يعرف أصلها وفصلها, لم يعرف في حياته مهنة غير هذه, توارثها وحافظ عليها, يراوده شعور الفخر والعز عندما ينظر الناس والأغراب إلى صورة جده التي افترشت وسط حائط المقهى وقد التف شارباه وجلس الطربوش القديم على رأسه, يجتمع عنده كبار شخصيات دمشق القديمة, ما زالوا يتمسكون بزيهم القديم على الأقل في سهرتهم هذه في ذلك المقهى كل ليلة بعد العشاء, ليتسامروا, ويتبادلوا أطراف الحديث, تكلم عن أي شيء إلا السياسة , إن تكلمت فامتدح الجلاد أو حول كلامك إلى أحاديث مملة وضحكات لا نهاية لها سوى بذوبان رأس النرجيلة ليختلط السعال مع صرخاتهم وأحاديثهم, كأنهم سكارى ثم يتلاشى جمعهم الغفير على أملٍ يتجدد للقاء في أمسيةٍ أخرى.. آه..من جوف آه.. ما زال أهلك يا دمشق الفيحاء ينشدون منتشين: (زينوا المرجة)... رمزٌ باقٍ في دخيلتهم من القرن التاسع عشر, ملتقى مسيراتهم ومظاهراتهم للاستقلال, علقت مشانق العديد, أبطال وشهداء أيار.. لا داعي لذكر إلى ماذا تحولت المرجة وما حولها الآن, اسألوا طفلاً في أقصى بقاع الأرض ليبلغكم ما حل بالمكان.. يقولون إن الفساد من الصعب كبحه, وإن أرادوا كبحوا جناحي ذبابة مرت من فوق قصورهم, ملء أفواههم قيل لا استقلال بعد اليوم, أنتم يا شعب كساحة المرجة الآن, سُلبت وسُلبتم الشرف والكرامة.. إن الاستعمار مهما طال مكثه سيخرج, لكن استعمارهم لنا كيف نستطيع إخراجه من داخلنا؟ قاطعني شيروان, مع نبرة من العصبية بصوته الأجش وهو يحاول أن يلفت كل انتباهي, تردد بالكلام, لكنه عكر مزاجي ولن تجدي العودة مرة أخرى لأفكاري. فتدخلت وقلت له: - عن ماذا كنت تبحث؟.. قال - كصوت المذياع والإبرة تحركت عن مكانها لتخلط كلامه بالناس الذين لايكلون ولا يملون من الحديث، يُخرج الدخان بلينٍ وهدوء, فبدا وكأنها تخرج من كل أنحاء وجهه, وقف على قدميه, كأنه تذكر بأن الصبي لم يدعمه بالجمر مثل العادة, غفل عنه وسط انشغاله بأوراقه, صار يصرخ كالمجنون, يبحث عن بلال, وجلس فجأة ليجيبني بعد ما نسيت أني سألته بالأصل, قال: - وجدتها..! - ماذا وجدت..؟ - سأقول لك فيما بعد، وربما وقتها ستكون قد بدلت رأيك.. لن تسافر عندما أحطم لك تلك الحجة بالتمويل، لأحضر لك مالاً يكفينا لنبدأ مشروعنا الذي سيدعم جمعيتنا وقضيتنا.. بدا وكأنه يريد أن يغير مسرى الحديث.. ونظر إلى الساعة وقال فجأة: - على فكرة سيأتي الآن (رشيد) الذي حدثتك عنه، وعدته بناءً على طلبك, هو دقيق بمواعيده. شاب رائع من أكراد (القامشلي) درس التمريض وتأهب للسفر, لكني نجحت بإخفاق سفره وإقناعه بالاستقرار في لبنان قرب حبيبته و استلام زمام الأمور في بيروت, خاصةً أنه يملك من الحنكة التي تجمع حوله أعداداً لا بأس بها من الشباب الكرد الذين يتأثرون بنظرته وأفكارنا المشتركة.. أفهمته بأنه لا بد أن توافق عليه بعد أن تقابله, له قصة حزينة أرجو أن تسمعه لتضيء له شعلة أملٍ يحيا لأجلها، رغم شكي بأنك الآن بحاجة لمن يسمعك وينتشلك من الغفوة التي ستبعدك عن رشدك وتغير مجرى حياتك.. ( وكم كان صائباً وحصيفاً )... قلت له: - ذلك لا ينسيني موضوع الورقة التي ذرفت منك قطرات عرق وفيرة وأنت تبحث عنها. لتطلعني على ما بها.. قال: انس أمرها وكل شيء بأوانه ومكانه.. صوتٌ جبلي من بعيد ينادي بلغة كردية فصحى.. إيفار باش, تعني بالعربية مساء الخير.. كان (رشيد) حسب ما توقعت.. عرفني عليه.. كان اسمي الحركي الذي أعرف به (ستيرك).. تعني بالعربية النجم, لكنه يتلاشى بعد أن ينضم لأعضاء مجلس الجمعية, شيروان اسمه ( كروبيون ) كان من اختياره, كان الإخوة يخلطون الكلمة أمامه, ليطلقوا عليه "قربون" المفدى, ما يقارنها بالعربية القربان... كان يردد ويقول: - معنى (كروبيون) لا أحد يعلمه غيري, دعهم ينادوني بما شاؤوا, المعنى يبقى بقلبي.. جلس رشيد بيننا, شابٌ ناضج في بحور العشرين من عمره, يتوسط وجهه شاربان كثيفان كأنهما مزيفان لممثلٍ يقف على مسرح الجامعة, عيناه داكنتان كحزن الليل, وجبينه العريض كتب عليه بكل وضوحٍ - (كردي). لو وضعته وسط الآلاف من الناس, مثل الغالبية العظمى من الكرد, لكان اكتشاف أصله أمراً في غاية البساطة, ربما لأنه شعبٌ لا يعرف المكر ولا يضع الأقنعة المصطنعة على وجهه.. بان على رشيد أنه خجول, وكسول من طريقة مشيه, الأناقة ليس لها معنى في معجم لباسه، خلط الألوان كلها في هندامه الريفي..فرضت المجاملة والسؤال عن الأحوال نفسها وسط الطاولة النحاسية التي تجمعت معها أقداح القهوة والشاي وأخذت وقتاً أكثر من اللازم كالمجالس البدوية, بعد ذلك صار (شيروان) يمازحه: - أما زلت تلهث وراء (سلافا)؟ - أي( سلافا).. هل بقي منها سوى اسمها؟.. ينظر لي بإحراج كيف سيقص أمامي وهو لأول مرة يلقاني, يلعب بنظره, لينـزل بعينيه من رأسي إلى أخمص قدمي, حماسٌ يدفعه ثم يخفيه أنه يريد إفراغ كل ما بجعبته أمامي, بعد أن لمست بفراستي راحةً لي بين حديث عينيه, تبادلنا الآراء.. شرب من قهوته وكأن أحداً يلاحقه, برر ذلك قائلاً: لقد اعتدت أن أشرب قهوتي بسرعة, ذلك بسبب إدماني على شرب أكثر من فنجانٍ في جلستي احتسى فنجاناً آخر أبطأ من الذي قبله, ونحن نرقبه ثم ضربه (شيروان) على فخذه ضربة مازحة وهو يذكره: - هيا يا رجل ..( ستيرك) الذي حدثتك عنه.. ليس هناك غريب بيننا أولاً و آخراً، ستحكي له أفضل من أن يسمع من غيرك وهو يشير بإبهامه على نفسه ويضحك.. هل في الأمر شيء يهمك لترجوني؟ قال تلك الجملة وبدأ بسرد حكايته التي لا أخفي أنها شلت كل تفكيري وأعطت كل أحاسيسي لكلامه الذي كنت أنتظر النتيجة فيه.. اشترط علينا أن لا نقاطعه أبداً وأعطيناه عهداً بذلك.. وجدت عينيه تتلألآن, بدأ يحكي لنا الحكاية, والتي لغاية هذا اليوم لم أعرف مآلها, ولم أشبع فضولي بنتيجة حل معادلتها.. صار يسرد.. وهو يتأتئ أحياناً.. وأحياناً أخرى يسبق نفسه بالكلام.. -كنت وما زلت أبحث عن شيء لا أدري ما هو, المهم أن أبحث..المهم أن أشغل خلايا فكري عن ما سيذكرني بما لا أريد أن أتذكره, من الكره والإجحاف الذي نتعرض له ونبتلعه, عن الاحتقان الذي أصابني, صار ينـزف من داخلي من كثرة الهواجس والأحاسيس الباردة التي تبحر بجثتي في عالمٍ لا أدري أين آخره, قد ضاق صدري, صار غريباً جدّاً ما يبدر من شاب في مقتبل الحياة, في ريعان الشباب, لا تتسع له فوهة الباب حسب وصفهم, لا شاغل له سوى البحث عن حقيقةٍ ضائعة, مثل الذي يبحث عن وكر ثعلب في ليلةٍ ثلجية داكنة.. بعد أشهر البحث يعثر على الوكر، ينتظر الشهور الباردة لترحل, يذوب الصقيع, ليظهر أن ما عثر عليه ليس بالوكر إنما كان قبراً أعد له دون أن يدري.. يتخبط بداخلي شيء, كأنه كرة من شوك الصبار لتذيقني الألم, لتضع في نفسي أن لا أبقى ريشة تسبح في فضاءٍ واسع لا نهاية له, أن أجد لروحي مهبطاً, ولو كان بين التراب والوحل.. المهم أن أعرف نتيجتي, مرقد رأسي, أن أجد لنفسي تحليلاً وتفسيراً لما نعانيه, ونرضى به رغم بساطة مطالبنا.. وأتخذ على أثره مساراً لحياتي التي جعلتها هذه الدنيا أكثر من بائسة, يتمنى المرء أحياناً لو أنه لم يولد, لو أنه ولد بغير مكانه وزمانه عله اختلف وضعه عما هو عليه, يشتد حنيني لأيام الطفولة التي لم نكن نعرف فيها معنى الهم, لم نكن نفكر إلا بالعيد وكم باقٍ على مجيئه, لنلبس الجديد, لم نكن ندري بما حولنا من الحروب والقتال ووحشية البشر..كم هي سخية الدماء التي تهدر بلا سبب, فقط لكي يبقى الصراع بين الخير و الشر.. لا أدري هل كنت نرجسيّاً أيامها, أرى الدنيا حمراء كلون الجوري, أم كانت نقطة دمٍ في عيني من بقايا ولادتي , انبثقت من الحبل الذي وصلني بأمي, ومن طيبها أوحت لي عن الناس من حولي, عن العالم والملائكة التي فيه, لم أكن أرى فيهم ما أراه الآن.. ولم أر الآن في نفسي ماكنت أراه آنذاك, هل يا ترى ما أراه الآن حقيقي أم هو ثمرة غير شرعية, لتزاوج أفكاري وأحقادي على كل من في الأرض من البشر؟ حتى عند الخلود للنوم يبدأ مشوار أصبحت أخافه من تداخل المشاهد, مخاطبة من أراه, ومن لا أرى إلا خيالها (سلافا).. وهي تمسك بيدها شيئاً.. كأنه مفتاح أحارب لأصل له, تنادي في عتمة الليل كلمة.. أفهم منها.. الخلاص.. الخلاص... تارةً تضحك, تارةً تبكي, بعد ذلك أسمعها, أرى حشوداً من الناس يصرخون بما لا أفهمه.. بينما نقف على مسرحٍ قديم مهترئ, كل ما يشغلني بالحلم أن لا ينكسرخشب المسرح من تحتي بينما أحيي الناس, ملامح وجهي ليست ملامحي أبداً, لكن ما أعرفه حينها بالحلم أن هذا هو أنا, تعابير القلق احتلت بانتصار وهزمت صمودي, يتضح أنها تمد يدها وتنبهني على خطواتي التي كنت من نفسي شديد الحرص عليها.. قلتُ: | |
| | | roj maf Admin
عدد الرسائل : 1617 تاريخ التسجيل : 12/02/2008
| موضوع: رد: الفصل الأول والثاني من رواية أكراد أسياد بلا جياد الأربعاء يونيو 03, 2009 10:23 am | |
| - من هي؟.. وتغيرت معالم وجهه من الحزن للغضب, سَكتَ قليلاً بأنه غير راضٍ عن كلامي ومقاطعتي له, فصمتُ وأشعلت غليوني مجدداً, أعطيته إشارة الإكمال, مثل التي يطلقها قائد الأوركسترا لفرقته ليبدؤوا بعزف السيمفونية, سيمفونية دون موسيقا, من نسيج الحياة والحرمان.. فأكمل وكأن كلامه لا نهاية له سوى الخلاص على يدي, إما أن أطعن الخنجر في ظهره أو أن أدعه بسلام يكمل حياته.. - صدقني, ليس من فراغ ما كنت أراه في حلمي, فالعلاقة بين (سلافا) والوطن والمفتاح واحدة, لم يكن لدي جواب عما كان يحدث, كنت دائماً أقنع نفسي بأنها أحلام عادية تحدث مع أي شخص, الفاصل بينه وبين الجنون هو أقل من طرف شعرة, ويجب أن أتخلص من كل أفكاري وأحلامي المشتتة, أعيش كباقي الناس صاحب أصلٍ متجذرٍ وهوية, حاولت كثيراً, لم أستطع, بين هذه الدوامة والمعمعة,لم أقدر على أن أكون دمية يحركها الناس ويتقاذفونها, تتجمع في ذهني أفكارٌ كثيرة أريد أن أبدأ وأعمل بها, أن يكون أولها بأن أعرف معنى تلك الأحلام المجانية, لو كانت بمقابل أتقاضى عليها لكنت على أثرها من الأثرياء, لكن الحلم فُسر بعد حدوثه.. صار يتكلم بشتات, تمردت حركات يده على جسده, وصار يضرب كفه المنكمش داخل كفه المنبسط..لمَ؟.. الأحلام البائسة تتحقق والأحلام الوردية تُسحق؟ .. انتقلت للعيش في لبنان بعد أن.. قاطعته.. أعرف.. أعرف.. مثلي ومثل هذا الرجل وأنا أشير على شيروان.. أنهيت خدمتك بين صفوف الجيش.. قلتها له لكي لا يغوص من موضوعٍ إلى آخر, ولا يسرد حكايته الغابرة مثل كل شابٍ كردي قادته قدماه من تلقاء نفسه, خدم العلم والوطن فلم ينعم عليه الوطن حتى باحتضانه.. فأكمل وهو يضحك بملامح بكاء ونحيب داخل صدره: - تدور الدنيا بي, ويُحلق فكري وذهني كطائر الحجل, هارباً من بنادق الصيادين إلى أن يفقد أمه وأباه, يتشابك مع السماء وينسى هل كان طائراً حرّاً, أم سنونو، أم طائر حجل ولد من غير أم وأب, ولد من رحم السماء؟ ما يقصدون بأنهم من جذور التاريخ, ونحن هبطنا عليهم من السماء.. وإن كنا كذلك فنحن رحمةٌ لهم، السماء من أبواب الرب ومن رحمته, نحن بذلك أبناء السماء والمطر.. يقولون إنهم أبناء هذه الأرض, كلانا من الطبيعة وكلانا من نسيج الله يكمل بعضنا الآخر.. تارةً أفكر بالانتحار ككل الناس, والخضوع للذُل، و بأن أضع رأسي على المقصلة, أو أرفع الفأس مع قاتلي لأساعده على اجتثاثه, ذلك الرأس الذي يحمل دماغاً بائساً, يطالب بالمساواة والعدالة بين أنياب الذئاب والضباع, الأقوى هو الذي يحكم ويأكل لحم الضعيف, لا يترك لوجوده أثراً على هذه الأرض, يدرك ويعلم أن الضعيف لن يقوى على ردعه, إن دافع عن نفسه فلن يستطيع أن يطالب ببقائه..لكن القوي يتناسى أن البعوضة تُدمي مُقلة الأسد, والليل لا بد أن يزول ويظهر فجرٌ جديد, وتأتي فرصة الذي كان ضعيفاً ليصبح هو القوي, وإن كان بعيداً فهو قريب.. لا أخفيك بأن النـزعة القومية سيطرت على كل حياتي, صار لا تفكير لي سوى دعم قضيتي التي أومن بها كإيماني الآن بمذلتي, شغلتني عن (سلافا), عن عشنا الذي بنيناه بين ثنايا ضلوعنا بأن نتوجه مثل كل اثنين تحابا ليكملا بقية حياتهما متلاحمين مكبلين بأعتق قيود الاحتياج البشري للحب.. انتقلت للعيش بجانبها في بيروت, لكي أجمع بين الحبيبين: الوطن وروحها المفعمة بعبق الدنيا..ثم نظر إلى حذائه, استند بيديه على ركبتيه, معه الخاتم الذي ينعكس به ضوء الأزقة, يحاول أن يثنيه لكن دون جدوى.. وأكمل: لم أكن أعرف أنه يجب أن أفكر بشيءٍ واحدٍ فقط, إما ( سلافا ) أو الوطن وأختار بينهما, فنحن بالكاد نستطيع أن نعيش, كيف لنا أن نحمل الحملين بيدٍ واحدة؟ هذا ما حصل معي.. سقطت التي كنت أمسكها بإهمالٍ.. تركتني سلافا وقالت لي: - لا أستطيع أن أعيش مع رجل ستكون نهايته في كل بد سراديب السجون, اختفت في ليلة مقمرة, تحت أضواء النجوم, بين الضجيج والعجيج.. قاطعته: - لا يهمك يارجل، أنت أولاً وآخراً رجل لا يُعيبك شيء، تكفي غيرتك القومية ونزعتك الإنسانية التي صارت عملة نادرة في هذه الأيام الرزية.. ثم أضاف: - ليتها تزوجت مثل كل فتاة تحلم بليلة عرسها, وخيال فارسها, يقود خطاها والدها في زفافها ليسلمها إلى الذي وضع حسن ظنه به, ضاغطاً على يديه بأن يحفظ الأمانة ليُكمل مشوار التناسل المقدس الذي وهب لنا من رحمة الرب.. - إذاً ماالذي حصل..؟ - بعد وصول الروح لقابضها من بين أشلاء جثتي.. وبعد مشوار لا نهاية له من البحث والسؤال تبين أنها هربت من بيت أهلها مع شابٍ عربي..؟ كان مركز خدمته بنقطة تفتيش في لبنان.. هربت لأنها عرفت أن أخويها يفضلان فصل رأسها عن جسدها على أن تكون لشخص من غير عائلتها أو ملتها.. قلت له بغضبٍ وعطفٍ معاً: - وأنت أين كنت..؟ - ألم أقل لك بين عشية وضحاها؟.. ثم ليتها أعطتني فرصة, كنت دائماً أؤجل الحديث معها, لا أخضعها لتفاصيل يكرهها بناتنا في هذه الأيام.. مثل المعتاد نتأثر بالأشياء التافهة في كل شيء ولا نأخذ عبرة من أي شيء, لا شاغل لهم سوى الانجراف بالتيار السلبي الذي رسموه لنا.. لا يعرفون أن العائلة الكردية وتماسكها حيرت صغيرهم وكبيرهم, كان من الصعب اختراقها بأي ترهاتٍ, لكن الآن.. آه.. اخترقوا عمق وجودنا بالمظاهر, والمال, صار الأخ يخاصم أخاه, والأب يقاتل أولاده من أجل المال, بحثوا عن نقطة الضعف والخلل ونجحوا في إيجادها, واستغلوها ليشتتونا, كان يقلقها المستقبل والعيش, تخاف الفقر لأنه سيحرمها من ترف الدنيا, لم أكن أريد أن أضغط عليها, لم أكن أسألها من أين أتيت وإلى أين تذهبين مثل تربيتنا التي اعتدنا من آبائنا بأن نعطي الحرية لبناتنا في الاختيار والقرار في كل شيء يصادف حياتهن, كانت للأسف من غير الجديرات بثقتي وثقة أهلها, كنت دائماً أقول: إنها ستأتي غداً لداري لأهذب نفسها, لأفهمها أني صاحب قضية, وأن بناء الوطن يبدأ من المرأة.. ووراء كل رجلٍ عظيم.. فلم يكمل..؟ وضاع صوته وهو في حال ٍكسيرة.. - وماذا حصل بعد ذلك؟.. - حملت ذنب الدنيا كله فوق أكتافي, جاء أخوها ليلومني بأنه كان سيزوجني إياها بدون حتى قطعة حلي ولماذا أجلت الموضوع؟.. لا يفيد الندم بعد فوات الأوان. كنت اشتريت هذا الخاتم لأفاجئها.. قالها وهو يصك على أسنانه وانحنى الخاتم تحت يديه فجأة..وأكمل: لكن أخاها لغاية يومك هذا يبحث عنها منذ سنة وهو يتوعد بقتلها, ولو كان ذلك آخر عملٍ ويوم في حياته.. قال شيروان وهو يستهزئ: - يريد غسل العار, يعتقد أنه بقتلها سوف يُولد من جديد وتعود الفراشات في حقولهن إلى رحيقها.. فهذا حالنا, نُصاب أولاً ثم نفكر بما سنفعله بمصابنا, كان من الممكن تدارك ذلك بحنكتك, كنت بقربها, الآن اقترفت ذنبين معاً: ذنب إهمالك لها وذنب إقحام رأسها في قضاياك طالما عرفت أنه لا يهز فيها شيئاً من ذلك.. - لكنها كانت ستكون أمّاً لأولادي, كيف لي أن أراهم وهم لا يحملون هموم أبيهم وأجدادهم؟ لقد ألحقت العار بنا ولا بد أن تدفع ثمن بيعها لنا، وإن لم يفعلها أخوها فسأفعلها بنفسي.. صرخ بوجهه شيروان وهو يقول: - العار بك إذ لم تكن لتعرف كيف تتعامل معها وتجعلها ذليلةً لساعدك.. قلت بين جدالهما.. وأنا أصرخ, غير واعٍ وفقدت السيطرة على نفسي: - كفاكم يا رجال.. كفى تعلقاً بالتفاصيل الدقيقة ونسيان أن السبب فينا, نحتاج لغسل أبداننا وأرواحنا, نحتاج لغسل عارٍ أكبر من ذلك, نحتاج لغسل عقولنا التي لا تريد أن تعلم أننا لن نرى المجد إن لم نر التغيير في نفوسنا, نريد غسل عارٍ أصابنا من حسن ظننا بكل من يحيط بنا وهو ما أوصلنا إلى الذي نحن فيه الآن.. نحتاج غسل عار أعرق وأول حضارةٍ في التاريخ, حضارة ميديا القديمة التي قهرت الدولة الآشورية واحتلت عاصمتها نينوى في 612 قبل الميلاد, حكمت لقرنين من الزمن, ثم خضعوا للامبراطورية الفارسية, وعندما أرسل الله حبيبه محمداً (ص )رحمة للعالمين, أشرقت شمس الإسلام، دافع الأكراد عن الدين الجديد بكل شجاعة وبسالة..عارٌ علينا وعارٌ على العرب والمسلمين والترك والفرس والإنجليز.. أن نبقى بلا وطن.. وبلا رقعة في هذه الدنيا.. ألم تسمعوا أخبار الكرد في بعض قرى عفرين الذين هم من بقايا اليزيدية؟ يريدون أن يرفعوا قضية لهيئات قضائية محلية ودولية بأن يعودوا إلى الزرادشتية وأن يعترف بدينهم مثل باقي الأديان السماوية, وبأنهم أرغموا في خضم الفتوحات الإسلامية بقوة السيف على أن يعتنقوا الإسلام, أضاف رشيد لـيُكمل الحديث: - لا تقدر ان تلومهم, لأن الإسلام والعروبة من تخلى عنهم.. سكت رشيد قليلاً ثم أكمل.. -لم هذا..كله؟.. لماذا كتب علينا هكذا أن نعيش.. لماذا.. لماذا...؟ وكلٌ من البشر بأطيافه وألوانه وأديانه وقومياته نال فرصته وعزه إلا الأكراد.. حينها لا أعرف كيف رفعت يدي للسماء وصرت أنادي كأنه مشهدٌ ميلودرامي.. إني أرى طيفك الآن يا صلاح الدين بيننا, في هذه المدينة, في دمشق, في طبرية, عكا ونابلس وصيدا وعسقلان وغزة وجبلة واللاذقية, أسمع صوت الأسطول بمصر, وقعقعة سيوف جندك في اليمن, في القدس الشريف, وقفة عيد الأضحى كانت آنذاك يوم الجمعة, تضاعف الناس وتوافدوا بمكة للحجيج, غير أن العيد بالقدس كان صباح الأحد, لم ير ليلة الخميس الهلال أي أحد, نصبت أيها السلطان المعظم خارج قبة الصخرة الخركاه الخاص, وصلى الناس في قبة المسجد الأقصى العيد, وقد بر خير عملك, ودر بهيج أملك, ووفر عظيم أجرك, وأسفر وانقشع ضوء فجرك, أما كنت لتتذكر من هم مثلنا ما سيؤول بهم الحال من بعدك.. هل كان حقداً صليبيّاً مخفىً من أشلاء التاريخ بسببك, لأنه يعتبرك البعض أن ذنب الشعب الكردي في رقبتك إلى يوم الدين, أنك أخطأت عندما رفعت علم العروبة والإسلام.. ونسيت أحفادك.. والجنرال غورو الذي كان يحمل جزءاً بسيطاً من أحقاده عاد, وضع قدمه على قبرك وقال كلمته الشهيرة: - (ها قد عدنا يا صلاح الدين) ووعد بالانتقام وفعلاً انتقموا.. واتفق الكل على الضعيف.. أم كان حقداً إسلاميّاً مذهبيًّا، لأنك أرغمت كل من في مصر ومن حولها بالرجوع لسنة رسول الله محمد(ص ) أم السبب نحن رفضنا الانسلاخ عن الإسلام, لم نطالب بدولة لنا وهذا كان جزاءنا؟.. قاطع شيروان حديثنا لأنه كان يثيره التاريخ وقصصه الذي كان متبحراً به, وأن ما نذكره هو جزء بسيط من الحقيقة الكاملة لسيرة الأكراد الحافلة, ورمى بسؤاله وسط جدالنا: - هل ستعقد الجلسة بعد غد حسب ما اتفقنا..؟ - إذاً سأذهب لأهاتف باقي الشباب عن موعد وزمان اللقاء, تركني مع رشيد, أتصفح أفكاره وأنصت كما ينصت الطفل لقصص جدته دون أي حراك, لتكون أذناي معه وعيناي تلاحقان المغادر إلى أن يضيع في كتل الناس, لينشغل بالي مجدداً به, كأني لا أستطيع الجلوس دونه, كأني أفقد عقلي, لا أستطيع أن أقرر إلا بمشورته والرجوع إليه, أفتخر في اللحظة ذاتها بأنني أثرت عليه كثيراً وصقلت له روحه حتى صار سيفاً بتاراً, جديراً بالثقة بنفسه, غير أسلوبه الفكاهي في التعامل وصار حازماً أحياناً, أدركت بعدئذٍ أنه كان على حق, وعلمت سر نظرته المتدنية للدنيا, وكما كان يردد, أنها بلهاء لا تحتضن إلا أمثالها, ربما استهتاره وأسلوبه كان كذلك, لأنه رأى منذ عقد, ما أراه الآن في البشر.. كان عند أي حديث عن أي شيء يرمي كلامه بسهام السخرية, يظن المرء أن كلامه لا يمت إلى الصحة بصلة.. مثل ذات مرة قال وقهقه وراء ذلك: إن (تشي كيفارا) الأسطورة بال بلباسه, قبل أن يصيبه العقيد برصاصاته.. بدأ بالتجريح وهو يهاجم خصمه, ماذا سيفعل الشيوعيون أحباؤك إن علموا أن بطلهم فعل ذلك خوفاً..اعتقد الجميع حينها أنه يشاكس (فرهاد) ليس إلا..كنت قد لمته في ذلك الوقت وأن (كيفارا) وسيرته البطولية, دخل التاريخ, صار مثلاً يحتذى به من الجيل القديم والصاعد, لا يجب أن يحكي حكايته مثلما قصها, حرام أن نختزل سيرة بطل استشهد من أجل أهدافه ومبادئه.. أجابني بنبرة ندم وألم, بأنه كان يريد أن يلقن (فرهاد) درساً لأنه دائم التأثر بالماركسية, يستشهد بأبطالها ناسياً أبطال الأكراد, ثوارهم وشهداءهم الذين يفتخر بهم حتى أعداؤهم.. عاد مجدداً بعد وقت لم يكن قصيراً, أحسسته طويلاً, بدلت تبغ الغليون أكثر من مرة, لأني اعتدت تبديله كل ساعة مرة, لما لاح ودنا منا قال: - لقد أبلغت الشباب كلهم بأن يأتوا بعد الغد صباحاً..كان (فرهاد) متذمراً بعض الشيء.. وأنه مشغول و..! أجبته بغضب على نفس عادتي التي لم استطع أن أهذب تلك النقمة في نفسي: - مشغول.. ما هي الوزارة التي سيتركها وراءه ويعرقل عملها إذا ما غاب عنها يوماً؟ كل مرة نتكلم بنفس الموضوع, ندور في حلقة كرقص الهنود الحمر حول النار ,إنها جلسة كل شهر أو شهرين حتى نتكلم بها ونسأل عن ما هو جديد, لم نطالبهم بالسعي وراء التبرعات أو عقد ندوات ومحاضرات, أفهمناهم مراراً أن لقضيتك حقّاً عليك كما حقك من مأكلك ومشربك وعملك, إن قصرت طرفة عين بإحداها.. هل ستعيش..؟ كيف ستزرع هموم وطن داخل أشخاصٍ ما زالوا يبدون غاياتهم على وطن.. ما أمكر الإنسان وما أشد لؤمه.. يرفض الركوع لربه والانحناء له بعدم الصلاة بينما إن وقفت أمامه أقبح خلق الله ينحني ليزني بها إرضاءً لشهواته, ليغضب من خلقه وكونه غير آبه به, ثم يرفع يده للسماء لدعائه في أشد محنه.. ويقبل يدَيْ من يذله, يحاول جاهداً إرضاءه, بينما لو أنه بذل ربع جهده في أن يناضل لينشئ كياناً له لفعل, أين مكان الكرد من كفاح هذا العالم يا شباب.. أين مكانه الجغرافي بقياس حجمه؟ امرأة واحدة تدعى (روزا) كانت الشعلة التي انطلقت من العبيد ليثوروا ويطالبوا بوجودهم, كان قانون أمريكا يحتم على الأسود أن ينهض للأبيض ويمنحه المكان, لا يجلس السود في مطاعم وأماكن يرتادها البيض, وها نحن الآن نراهم يعتلون المناصب السياسية العليا وانصهروا في مزيج الحياة وأنتجوا ,استفادوا وأفادوا.. نظرت إلى رشيد..كان ينصت.. -لم ننس موضوعك ولم نغير سياق الحديث لأنه كله متشابك في سلسلة واحدة.. وطننا وحقوقنا, (سلافا), أحلامنا.. لكن نحتاج أن نتشابك كلنا مثل تلك السلسلة لا نفترق, ولا ننام في رقاد عميق.. الوطنية يا رشيد.. تولد مع الإنسان عندما تطرحه أمه كتلةً لزجة, مثل الفن والإبداع, المبدع ليس شريطة أن يكون فناناً, الوطني أيضاً مبدع, يسقي تلك البذرة التي بداخله لكي تكبر الشجرة, وتتفرع أغصانها, تتفتح براعم و أزهار خلوده في ربيع حياته. ثق ثقة عمياء أنه " لن يرى وجه سعادةٍ أي إنسان ما دام أنه عاش وفيه نقيصة اتجاه أي شيء كان قادراً على تغييره ولم يفعل " وأنا لم أطالبهم سوى بالمحافظة على بذرة وطنيتهم التي تقبع بداخلهم, لربما منهم من كبرت الشجرة ثم يبست أغصانها وصارت مهددة بالموت.. مثل شجرة (فرهاد).. وربما غيره أيضاً.. لا يعلم ما في القلوب إلا الله، لكنه خير على كل حال أن ماتت الوطنية بداخلهم كموت الشجرة شامخة ناصبة, ضاربة جذورها بقوة في باطن الأرض.. أفردت بذلك لأن (فرهاد) حاول البعد عن جمعنا ونحن من فتح عينيه, كان الكفاح المسلح وحرب العصابات يسيطر على كل عقله وتفكيره, لا يقتنع بفكرة غير ذلك, رغم أننا أفهمناه مئات المرات أن جمعيتنا سلمية, ستظل تطالب بالوسائل السلمية ولن ترضى بغيرها, لكنه دائماً كان يطالب بإنشاء فريق عسكري, يتولى مهامه..كم أقلقني أنه لمح كثيراً من المرات بأنه سيفعل ذلك من ذاته, تلك كانت الشرارة بينه وبين شيروان, وكان يقول أن بدايتنا لا يجب أن تكون على هذا النحو, بين التنافر ومخالب الاختلاف.. استيأس (شيروان) من كلامي, أعتقد أنه نال من بعض العبارات التي وجهت له وما كان له إلا أن يدافع عن نفسه.. أو أن يستغل ما ذكرت لطرفه.. - وأنت ألم تؤثر مصالحك على وطنك؟.. ستسافر لتكون أيامنا هذه تدون على كراسات الذكريات الغابرة, تنسى أنه روحك تركتها وراءك لتلهث خلفك ثم تختفي وتفقدها في غابة أطماعك.. - ألم أشرح لك أمري؟.. غريب.. هل فرض علي فوق كارثتي أن أحاضر للناس كلهم عن سبب سفري؟ لماذا لا تكون أنت أول من يدافع عني, يدعم وجهة نظري ويريحني قليلا ًمن عذاب النفس؟.. ألست أنت من سيكون المسؤول عن الجمعية والإخوة من بعدي.. ألم يكن هذا حُلمك؟ برقت عيناه كوميض سيف يلوح بالهواء لبتر ما بطريقه..! وتلعثم لسانه, اضطربت أحواله صار مثل طفل تعلم الكلام للتو: - أنا؟.. - نعم أنت، ومن تتوقع غيرك؟ - أتظن في دخيلتك , أني أسعى لذلك؟ شعرت ساعتها أنه تألم من تلك الكلمات.. - لن أفعل, لا أريد ذلك, هناك أكثر من واحد أكفأ مني.. وأكثر مني ثقافة وحكمة... لا تحملني هذا العبء, أنا لم أستعد وأتهيأ لهذا الحمل.. لا بل أكثر من ذلك سأكون نقضت العهود العشرة التي بيننا قبل أن تسافر.. والأمر لا يستحق منك كل هذا العناء.. الأمور ستمشي على ما يرام ومثل ما تكون أنت بيننا.. وسترشدنا بكل تعليماتك حتى من بعد, نحن في زمن اختلف كل ما فيه, إلا خمول أكرادنا.. لا يستحق منك كل هذا العناء..هذا ما قاله.. أتراه كان يعرف، وبسبب ذلك كان رفضه؟ كنا آخر من غادر المقهى بعد أن تذمر (بلال) ورفاقه, ذاقت أقدامنا أكثر من ساعة مشياً بطيئاً مصطحباً بسكون الأزقة, كأني أريد أن أملأ جعبتي بأكبر قدر ممكن من التمعن بدمشق القديمة التي نخرت حبها بين أوردتي وعروقي.. قصدت حلب على أمل أن أعود بعد غد, لا أدري لماذا كان (شيروان) يحدق بي, لم تغب عيناه عن التمعن, وكأنه يريد أن يصرخ بأعلى صوته, ارجع.. ارجع.. إني لم أحتضنك ولم أربت على رأسك, سمعت من بعيد صراخ قلبه... ولم أكتشف سر لمعان عينيه إلا بعد ندمي لعدم وداعه.. | |
| | | rony عضو
عدد الرسائل : 3 تاريخ التسجيل : 04/06/2009
| موضوع: رد: الفصل الأول والثاني من رواية أكراد أسياد بلا جياد الخميس يونيو 04, 2009 12:36 pm | |
| الصديق العزيز مصطفى... مبروك على إصدارك الفصل الثاني من رواية أكراد أسياد بلا جياد سلمت أناملك و إلى المزيد من الإصدارات .. روني - كردية في مصر ... | |
| | | ايدلوووو عضو
عدد الرسائل : 507 تاريخ التسجيل : 30/10/2007
| موضوع: رد: الفصل الأول والثاني من رواية أكراد أسياد بلا جياد السبت أغسطس 01, 2009 8:49 pm | |
| مشكوررررررررررررررررررررررررررررر بانتظار الجديد منك | |
| | | عاشق الجبال Admin
عدد الرسائل : 3531 تاريخ التسجيل : 02/11/2007
| موضوع: رد: الفصل الأول والثاني من رواية أكراد أسياد بلا جياد الإثنين مارس 08, 2010 2:47 pm | |
| لكنها طامةٌ كبرى, إن شعرت أن المعظم صار يستنكر وجودك, لتصبح محارباً دون أن تشعر-حتى من أقرب الناس منك, ليقحموا برأسك أن الهجرة مكتوبةٌ على جبينك من أول يوم وطئت به هذه الدنيا, لتكون غريباً في الغربة، وغريباً في وطنك.. وغريباً حتى في قبرك ومماتك. كل الشعوب تعيش في اوطانها الا نحن الكرد الوطن يعيش فينا | |
| | | اميرة كردستان Admin
عدد الرسائل : 1432 المزاج : رايقة اخر رواق تاريخ التسجيل : 01/11/2009
| | | | البوتانى عضو
عدد الرسائل : 6 تاريخ التسجيل : 30/05/2010
| موضوع: رد: الفصل الأول والثاني من رواية أكراد أسياد بلا جياد الأحد مايو 30, 2010 1:44 pm | |
| سبااااااااااااس برا كيان برا ستى كتابيكي به نرخ و كرنكه اشكرك اخى العزيز مع تحياتى و مودتى | |
| | | | الفصل الأول والثاني من رواية أكراد أسياد بلا جياد | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى | |
جميع الحقوق محفوظة لصالح موقع روج ماف | |
|