في غمرة الحديث المتزايد عن امكانية تدخل عسكري تركي في سورية كان لافتا الموقف الذي أدلى به الرئيس العراقي "مام" جلال الطالباني في مقابلة مطولة مع قناة "العراقية" قبل بضعة أيام حين أكد رفض هكذا تدخل معتبرا اياه أمرا مخيفا, والحال أن الطالباني لم يجانب الصواب في تأكيده هذا, فتدخل أنقرة لن يزيد الأمور بطبيعة الحال الا تعقيدا, وسيدفع بالأزمة الى مديات شديدة الخطورة والكارثية, فحينها ستختلط الأوراق وتزداد احتمالات نشوب احترابات طائفية وعرقية لن تبقي أنقرة نفسها بمنأى عنها خصوصا وأن الأكراد مثلا موزعون على جانبي الحدود التركية ¯ السورية والحساسية الكردية عالية من أي تدخل تركي كما هو معروف فالامتدادات العرقية والمذهبية بين البلدين تعني, والحال هذه, أن الحريق السوري سيمتد الى عقر الدار التركية .
والخشية أن تدفع النشوة التي تنتاب رئيس الوزراء التركي كعراب "الربيع العربي" لتوريط نفسه بنفسه في الرمال السورية المتحركة, أضف الى أن ذلك قد يقود الى تدخلات مختلفة, فقد تتدخل حينها ايران مثلا, وقد تتطور الامور باتجاه حرب اقليمية واسعة على خلفية الانقسام السني - الشيعي, وهنا لا حاجة للاشارة الى مدى كارثية ومأساوية مثل هذا السيناريو الذي يدفع نحوه النظام البعثي نفسه بما يدخل الانتفاضة الشعبية السلمية في متاهات العسكرة والمناطق العازلة وغير ذلك من خطط لن يكون من شأنها سوى دفع الامور بالاتجاه الذي يعمل عليه النظام وهو خلق فوضى شاملة تحيق بالبلاد والعباد طالما ان خيار النظام هو اما انا واما القتل والدم والحرب الاهلية وحتى الحرب الاقليمية استنادا الى الحليف الايراني اساسا وتسلحا بموقفي موسكو وبكين المخزيين في دعمهما نظام دمشق رغم الاجرام الهائل والمنفلت العقال الذي يمارسه في قمع شعبه في وصمة عار ستبقى على جبين العالم كله الذي ما زال عاجزا عن وقف هذه المذبحة المفتوحة بحق الشعب السوري.
ومن هنا تحديدا يمكن تفهم السبب الذي يدفع طالباني الى رفع الصوت رفضا لهكذا احتمال, فالرجل يعي أن العراق سيكون في عين هذه العاصفة وهو الذي أصلا شكل صاعق التفجير الاول لهذا الاستقطاب المذهبي بين السنة والشيعة في عموم المنطقة, فعراقيا سيترتب على ذلك تداعيات خطرة لجهة تجدد الحرب الطائفية, حتى كما شهدنا بين عامي 2005 و 2007 وكرديا لا شك ان مام جلال والقيادة الكردستانية في العراق عامة تدرك حجم المخاطر التي تتهدد الأكراد في سورية وقضيتهم في حال تدخل تركي يمهد السبيل لبديل مفصل بمقاسات أنقرة لما بعد البعث في سورية الأمر الذي سيكون الأكراد وبالضرورة أول المتضررين منه والاشارات عديدة التي تدعم وجاهة هذا الاستنتاج الصادرة عن المعارضة السورية المعمولة في تركيا وخصوصا المجلس الوطني السوري الذي أتخذ مواقف شديدة السلبية من القضية الكردية ليس في سورية فقط, بل وحتى في تركيا خطبا لودها وتقديما لفروض الولاء والطاعة لها علها تسهم في تنصيب هذا المجلس على دفة سورية ما بعد البعث .
والحال أن تصريح "مام" جلال يأتي ليؤكد مجددا أن الاكراد في سورية لن يكونوا ضحية لأحد وأن ما يرسم بصدد تهميشهم والالتفاف عليهم, في الدوائر التركية ودوائر المعارضة السورية الدائرة في فلك انقرة لن ينطلي عليهم فالاكراد يعون حقيقة هذه المخاطر التي تحيق بهم والعبرة ليست فقط في اسقاط بشار الاسد ونظامه البعثي الاستبدادي, بل هي في اسقاط البنية التحتية الفكرية والمجتمعية لهذه المنظومة الاستبدادية العروبية والعنصرية لا سيما في التعاطي مع القضية الكردية التي تتشارك في الصدور عنها السلطة البعثية كما جل المعارضة العربية السورية, وهنا لا نبالغ كما يشدد كاتب هذه السطور دوما, على أن القضية الكردية ستكون محكا جديا وجذريا للتحول والتغيير الديمقراطيين في سورية, والا فاننا حيال اعادة انتاج للاستبداد كما حذر طالباني في مقابلته التلفزيونية التي نحن بصددها حين ابدى تخوفه من أن يكون بديل البعث نظاما متطرفا لا يقل سوءا عنه راجعا بذاكرته الى واقعة محاربة الحركة التحررية الكردية في العراق لنظام عبد الكريم قاسم من دون التحسب للبديل حيث سرعان ما تكشف أن بديل قاسم كما تبدى لم يكن أفضل بل كان أسوأ بما لايقاس على الأكراد خصوصا وعلى العراقيين عموما .
ولعله آن الآوان لنا أن نستفيد من تاريخنا ومن تجاربنا المريرة في مختلف أجزاء كردستان على خلفية تشابه كي لا نقول تطابق رؤى السلطة ومعارضاتها في الدول المقتسمة لنا حيال قضيتنا في هذا المنعطف التغييري العاصف في سورية. فالأكراد طبعا هم في طليعة المنتفضين على الاستبداد البعثي والمستفيدين من التحول الديمقراطي في سورية, لكن لهم قضية قومية ملحة ولا بد من الآن التوافق على وضع الخطوط العريضة لحلها والاقرار بعدالتها وفق مبدأ حق الشعب الكردي في تقرير مصيره ضمن سورية ديمقراطية علمانية تعددية ولا مركزية .
ويبقى المؤمل كما اشار "مام" جلال ايضا الى ان تأخذ المبادرة العربية طريقها للاشتغال والتطبيق رغم رفض النظام لها ومحاولاته تسفيهها وافراغها من محتواها الامر الذي اضطر الجامعة أخيرا الى فرض عقوبات اقتصادية عليه, وهذا طبعا اضعف الايمان, فالدور العربي محل ترحيب مختلف السوريين ومنهم الاكراد وتفعيله في حل الأزمة وايجاد مخارج سلمية تكفل انتقالا للسلطة هو الخيار الافضل لتجنيب البلد الوقوع في فخاخ الحرب الاهلية والتدخل الخارجي, وتحديدا التركي المغرض والمشبوه والمثير للحساسيات والحزازات بين مكونات البلد, فليس سرا أن أنقرة تحاول توظيف انتفاضة السوريين العارمة على البعث في سياق خدمة مشروع اردوغان الامبراطوري المنتفخ الذي يداوي الاسد وأشباهه من طغاة العرب الساقطين والمتساقطين وهو عليل .
فتركيا ليست في منأى عن معمعة التغيير الذي تشهده المنطقة, بل هي الأخرى دولة مأزومة كما معظم دول الشرق الاوسط, والحري بحكومة اردوغان بدل النفخ في طموحاتها التوسعية وركوب موجة تيار الاخوان المسلمين في المنطقة العربية المستفيد من حالة الموات والقحط السياسيين المديدة التي عاشتها شعوب المنطقة ومجتمعاتها في ظل انظمة الاستبداد العسكري والقومي المزمن والعمل على محاولة وأد القضية الكردية في تركيا وحتى في سورية عبر شروعها في حملة منظمة لسد كل المنافذ السياسية امام الشعب الكردي في تركيا وما حملات الاعتقال الجماعية الهستيرية الراهنة للسياسيين والنشطاء الأكراد في تركيا خير شاهد وما مواقف المعارضة السورية المرعية من أنقرة من القضية الكردية في سورية الا شاهد آخر وتكفي الاشارة هنا الى مواقف البيانوني وغليون من أكراد سورية والتي لم يتم الاعتذار عنها او تصحيحها, بل ان ما تم هو مجرد اعادة طرح لجوهر الموقف العنصري المتشنج من الاكراد لكن بصيغ كلامية ملطفة ومعسولة كما راينا مثلا في ما سمي اعتذار غليون والذي كان في الواقع اعادة تأكيد على ثوابت موقفه لكن بصياغة لغوية مخففة وعبر التلاعب ببعض الالفاظ فالاجدر بتركيا بدل كل هذا اذن الاتعاظ مما يجري حولها والمبادرة الى اعتماد مقاربة سلمية وحضارية لحل القضية الكردية التي لا يختلف وصف حكومة اردوغان لها بانها قضية ارهاب عن وصف نظام بشار لانتفاضة السوريين الباسلة على استبداده بانها من عمل عصابات مسلحة ومندسين وجراثيم .
ويبقى المهم أن تعمل الجامعة العربية على ترتيب بيت المعارضة السورية وتحقيق توافقها على القواسم الوطنية المشتركة وفق خارطة طريق لسورية ما بعد البعث كما هو مأمول عبر اعداد الجامعة لمؤتمر المعارضة السورية الموسع في القاهرة وقريبا من دون اقصاء أي طرف رئيسي وخاصة الطرف الكردي الذي هو رقم صعب ولاعب فاعل في معادلات التغيير السورية ولعل الاشارات الصادرة من القاهرة التي تفيد بتمثيل وازن ومعتبر لأكراد سورية في اللجان التحضيرية للمؤتمر المزمع على خلفية زيارة وفد المؤتمر الوطني الكردي للعاصمة المصرية برئاسة السياسي الكردي المخضرم عبد الحميد درويش واتفاقه مع الأستاذ صالح مسلم رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية على توحيد الموقف الكردي فذلك كله يبعث ولا شك على الأمل في نجاح هذا المؤتمر وتمكنه من توحيد المعارضة السورية بمختلف أطيافها وتهيئتها لتأدية دورها المفترض جنبا الى جنب المجتمعين العربي والدولي للضغط أكثر فأكثر على النظام والمضي في الانتفاضة الشعبية السلمية وصولا الى جبارة على الرضوخ لارادة التغيير وبناء سورية جديدة على أساس شراكة عربية ¯ كردية حقيقية ومثمرة وهذه الخلاصة وهذه الغاية المبتغاة هي ما حضت جلال طالباني على اطلاق هذه التصريحات والتي كالعادة حاول بعض البؤساء المعزولين والهامشيين في الوسط الكردي السوري تحريفها وتشويهها وتأويلها وفق منطقهم الاستلابي الممسوخ, لكن رسالة مام جلال وصلت الى عنوانها الكردستاني السوري الصحيح كما اراد لها صاحبها, وسيمضي أكراد سورية في خيارهم الانتفاضي الديمقراطي السلمي ضد الاستبداد البعثي وللوصول الى سورية ديمقراطية جامعة لعربها وأكرادها على اساس الاقرار بحقهم في تقرير مصيرهم ضمنها وهم في سعيهم نحو هدفهم النبيل والعادل هذا كانوا وما زالوا على تواصل وتنسيق دائمين مع عمقهم الكردستاني في أجزاء كردستان الأخرى وتحديدا مع القوى الكردستانية الرئيسية, ان في حزب العمال الكردستاني او في القيادة الكردستانية في العراق, وفي مقدمها الرئيسان الطالباني والبارزاني.
شيرزاد عادل اليزيدي
sh.yazidi@hotmail.com
* كاتب وسياسي كردي مستقل