إن الإنسان يبدأ من الطفولة، ففي هذه الفترة بالذات نبذر الخير. إلا أنه بعد سنوات فقط، يتضح أن بذور الخير هذه كانت صالحة وقوية. ومهمة كل منا، أن يساعد هذه البذور على أن تنبت الخير.
لقد اهتمت الشعوب قديما، والحضارات البشرية بالأسرة، وبالطفل خصوصا، حيث أن الأطفال في جميع المجتمعات البشرية هم عماد المستقبل، تقع عليهم الآمال في بناء مجتمع سليم، متطور وواعٍ.
والأدب الكردي، كغيره من الآداب الإنسانية، تناولَ الطفل وقضيته في التربية والعيش ضمن حياة كريمة وصحيحة وهادفة ....، والأطفال في المجتمع الكردي يحلمون بحياة حرة وسلام أبيض، ورغم الواقع البائس الذي يعيشون فيه، إذ يلاقون البؤس والشقاء والجوع والعطش والهجرة والتهجير والبرد والحرمان، فهم حرموا من الابتسامة والطموح البريء، كونهم لا يحصلون على الرعاية الكافية والطبابة، والاهتمام والتعليم والحرمان من تعلم ثقافتهم ولغتهم الكردية.
يفتقر الأدب الكردي إلى أدب الأطفال بمختلف فروعه، من قصة ومقالة ورواية ومسرح وخاطرة وقصائد، بالإضافة إلى فقدان المناهج وضعف وسائل الإعلام الكردية في انتشال الطفل الكردي من مستنقعات ثقافة التتريك والتعريب والتفريس، التي يتم تلقينها لأطفال الكرد، في ظل أيديولوجيات السلطات، التي تتقاسم أجزاء كردستان منذ نعومة أظفارهم، وذلك وفق معطيات ومفاهيم مبنية على أسس ومبادىء تاريخية غير صادقة. فالمناهج والتاريخ المعتمد في المدارس والمراحل الدراسية، تلقن للطفل بما يخدم مصلحة هذه الأنظمة.
تم الاهتمام بتربية الطفل ورعايته، منذ بدايات نشوء الأدب الكردي. ولو عدنا إلى التاريخ والفولكلور الكردي، نجد أن الطفل تلقى الاهتمام والرعاية من رواد الأدباء الأكراد القديمين، ويأتي في مقدمتهم الشاعر ( أحمد خاني ) أمير الشعراء الأكراد ( 1061م )، الذي قدم للطفل الكردي مبادىء عامة في التربية والتهذيب الأخلاقي من جانب، وحثه على المواظبة في طريق تحصيل العلم، مبينا قيمة العلم والأدب في ترقية النوع البشري وتهذيبه، والسموّ به إلى مستوى فكري وشعوري وخلقي نبيل.
جاء في دائرة المعارف البريطانية أن: ( الأدباء هم معلمو الشعوب وحكامهم الروحيون، الذين يرشدون إلى الحق ويهدونهم إلى الرشد ويهبون لهم الحياة الصحيحة ).
ويرى أفلاطون: ( إن أهم ما في الشيء هو بدايته، وخاصة بالنسبة للطفل الصغير الطري العود؟ إنه في هذه السن تتم صياغته ويتخذ الطابع الذي نريده له )، وقد تأثر الأديب والمفكر الكردي ( أحمد خاني ) بوجهة نظر أفلاطون الفيلسوف اليوناني القديم، وذلك في موضوع التربية الصالحة للطفل.
فأفلاطون، في كتابه ( الجمهورية )، الذي احتوى على مبادىء عامة يقوم عليها المجتمع الفاضل، وأتضح ذلك أكثر في الكتاب الثاني من الجمهورية، حيث بحث موضوع تعليم المواطن الصالح، أصر على أن تكون الحكايات التي تروى للأطفال قادرة على التطهير الخلقي وعلى ألا توحي إليهم بالآراء الخاطئة. لذلك، كان من الأهمية أن تكون الحكايات، التي تحكى للأطفال محتوية على الأفكار الفاضلة.
هنا، أدرك ( أحمد خاني ) أن عملية التربية، لا يمكن أن تكون صحيحة وتعطي ثمارها، إلا إذا كانت اللغة القومية آداتها. فاللغة في منظوره، تلعب دورا عميقا في حياة الأمم والشعوب، فهي ترمز للوحدة الطبيعية للشعب، وهي وسيلة التفاهم بين الأفراد، وفضلا عن ذلك تعتبر اللغة آلة للتفكير. نوع من التفكير حسب تعبير أحد الحكماء.
وكون اللغة هي بمثابة وحدة طبيعية للشعب، لا يعني أن هذه الوحدة تتحقق بصورة آلية، بمجرد تقريرها حقيقة. لأن الواقع في كثير من الأحيان، يضع في وجه التكون الطبيعي عقبات وعراقيل ومصاعب، قد تودي به إلى الأبد. لذلك، ينبغي بناء تربية قومية سليمة، توضح هذه الفكرة في النفوس، حتى تتمكن من إدراك المصاعب ومواجهتها روحيا، لأجل هدف نبيل وسامي.
أدرك أحمد خاني هذه الحقيقة، صابّا جل اهتمامه على اللغة والعمل على ترسيخها، فظهور الكورد مع بزوغ الإسلام وصراعهم مع الصفو يين، دفعهم إلى التخلي عن لغتهم القومية في الكتابة بها والتعبير عن مشاعرهم بلغات أخرى كالفارسية والعربية ..... ومن هنا، أخذ أحمد خاني يقوم بدور المربي لأفراد المجتمع الكردي، وبدأ أولا بالأطفال، وذلك باعتبارهم الجيل الذي يغذي المجتمع بالعطاء وبناء جيل مثقف وواعٍ، قادر على التطوير والازدهار والتنمية، وذلك من خلال الدور الذي يرسمه له المربي، وكونهم نور المستقبل وشعاعه.
لذلك، بدأ أحمد خاني بعمليته التربوية، ابتداءً بفتح المدارس على حسابه الخاص، والقيام بدور المعلم وتعليم الأطفال. فوضع قاموسا صغيرا ( كردي – عربي ) وسماه ( الربيع الجديد للأطفال ) عام ( 1094 ه – 1682 م ) لتسهيل عملية التعلم وتذليل المصاعب .
إذاً، كان دور أحمد خاني تربويا وتوجيهيا، استطاع من خلاله إنشاء جيل واعٍ وربطه بالتراث الكردي في جميع النواحي القومية، الفكرية والروحية، ورعاية المواهب وتنميتها.
لم يكتف الشاعر والمربي أحمد خاني بدور المنظر، بل رأى أن الكلمة إذا لم تقترن بالعمل والتعاون على أرض الواقع والمجتمع، فسرعان ما سيتلاشى تأثيرها، وكأن شيئا لم يكن.
تتجلى قيمة القاموس، باعتباره أول مصدر في الأدب التعليمي وأدب الأطفال في تاريخ الأدب الكردي المدون، حيث جاء على شكل نثر مسجوع، يبدأ فيه أحمد خاني الإفصاح أنه وضع هذا القاموس لأجل أطفال الكرد، لا سيما بعد الانتهاء من قراءة القرآن الكريم، بغية الحصول على بعض المعلومات الدينية الواردة فيه، والتوجيهات التربوية والأخلاقية، التي جاءت من خلال الأبيات، وتعليمهم معاني الكلمات والمصطلحات العربية باللغة الكردية، وذلك قبل البدء بالدراسة المنهجية في الكتاتيب الدينية ذلك العصر.
إن الأبيات التي احتواها القاموس، ومن خلال دراستها، تعتبر مادة لدراسة الأدب التعليمي المدون عند الكرد، خاصة فيما يتعلق بأدب الأطفال من الجانب التعليمي والتربوي والأخلاقي للإنسان الكردي، وهو طفل في أيامه الأولى، حينما يسعى نحو العلم والمعرفة، وتكوين شخصيته على الأخلاق والمعرفة.
استطاع أحمد خاني أن يتحول لمربٍّ وموجه تربوي، من خلال تلك الأبيات الشعرية الجميلة، والتي كتبت باللغة الكردية على شكل دروس وتوجيهات تربوية ومعرفية، يلقي بها لأطفال الكرد، من أجل فهم مضمونها تربويا، والمساهمة في تكوين شخصية الطفل الكردي في المستقبل. لذلك، نجده يدعو الطفل الكردي من خلال تلك الأبيات إلى ما يلي:
إنه لن تصبح مشهورا ولا معروفا في هذه الحياة، ما لم تسع وراء العلم.
إن القلب الذي يتحرر من الهموم والأحزان يصبح كالبلبل الذي يغني في حديقة مليئة بالورد.
إن الإنسان الذائع الصيت بفضائله وخلقه، لهو إنسان صابر وحليم في سلوكه.
إذا قصدك شخص ما، فعليك بتلبية حاجته.
إذا كان لك وليٌّ، فعليك أن تطيعه دوما.
إن الذي يبدل الجهل بالعلم فهو كمن يكلل نحاسه بالذهب.
الاعتماد على النفس والذات، والابتعاد عن الغرور والنرجسية في طلب العلم والمعرفة.
بالعلم والمعرفة، تحصل على المشيخة كمرتبة علمية، والصوفية كطريقة، والكرامة كقيمة اجتماعية.
من خلال التزهد والتصوف في الدين والمعرفة، تصل إلى الشريعة الصحيحة بلا ملل وتعب.
إذا أردت أن تصبح رجلا معتبرا وذا قيمة، فما عليك إلا الصدق وعدم الكذب، حتى ولو قطعوك إربا إربا.
إن من يبتعد عن الخطايا والذنوب، ويحافظ على كرامته في الحياة، سيشعر بالعزة والكبرياء داخل المجتمع .
إذا أردت أن لا يستطيع أحد أن يضاهيك، فما عليك سوى التسلح بالعلم قولا وفعلا.
سعي الإنسان للعلم وحصوله عليه، ما هو إلا ثروة عظيمة، ولكن شرط أن يدرك هذه الحقيقة منذ البداية.
إن طلب العلم والأدب هو كالتنزه برفقة الحبيبة في فصل الربيع.
مهما كان قلب المعلم قاسيا كالحجر، ما على التلميذ إلا أن ينصاع له ويطيعه ويقدم قلبه لمعلمه طواعية.
ويوصي أيضا : فإن كنت ترجو طريق النجاة فخذ مسلك مظهر المعجزات
لما أوحى المصطفى فاستمع بسمع الرضا فاعتقد واتبع
أصلي على شافعي أحمدا فلا تنسى يا شافعي أحمدا
لقد اتسمت هذه الأبيات الشعرية لأحمد خاني بمحتوى فكري، وتعامل معها بشكل دائم وعمومي لا آني ووقتي. فنراه، يعلّم حينا ويعظ بحكمة حينا آخر. من الواضح أن هذه الأبيات بمضمونها، قدمت للطفل الكردي مبادىء عامة في التربية والتهذيب والأخلاق، حاثّة إياه على المواظبة والعمل في طريق التحصيل العلمي، وذلك لما للعلم والأدب من قيمة ودور في ترقية النوع البشري وتهذيبه، ورفع شأنه إلى مستوى فكري وشعوري وأخلاقي عظيم. لذلك، نستطيع القول، إن الشاعر الكردي أحمد خاني استطاع أن يقدم للبشرية ولمدارس التربية أدبا تعليميا، قد يكون موجها للطفل الكردي عبر معجمه الرائع والفريد، إلا أنه يمكن أن يساعد في إنشاء جيل من الأطفال على أسس من التربية الصحية والسليمة. فكل شيء يبتدىء من الطفولة، وما علينا سوى الاستفادة من كل الأشياء التي تخدم الطفولة في هذه الحياة.